لا يبدو أن الأمة العربية قادرة على الخروج من نفق المهانة والانكسار الذي دخلته بعد هزيمتها المفجعة في سنة .1967 فكل النذر والمؤشرات توحي بأنها ستتعرض إلى محنة أخرى في سورية. إذ بعد مرور عقد كامل على كارثة غزو العراق وتدميره في سنة ,2003 يتجه إعصار التدمير بسرعة فائقة نحو سورية لتصبح بدورها حلقة جديدة في مسلسل استباحة سيادة الدول العربية ومعاتبة أنظمتها الطاغية التي تأبى أن تتجدد أو أن تتبدد! كثير من الحكام في هذه الأمة المنكوبة بأبنائها والتي تحارب نفسها بنفسها، مازالوا مصرّين على عدم الاستفادة من دروس التاريخ والاتعاظ بعبر نظرائهم في ممارسة الطغيان وقهر شعوبهم! قبل عقد من الزمن عندما كانت طبول الحرب تقرع على أشدها وقادة الجيوش الامبريالية الغربية يضعون على المكشوف اللمسات الأخيرة لغزو العراق كان الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين يحاكي انتفاخا صولة الأسد ويتوعد الجيوش الغربية مجتمعة بهزيمة تاريخية ويعلن بأن ''الأمريكيين سينتحرون على أسوار بغداد''. أما سوريا الأسد فإن مسؤوليها مازالوا يتبنون اللهجة العنترية نفسها، إذ صرح رئيس وزراء سورية بأن:''سورية ستكون مقبرة للغزاة.. ولا يمكن لأي قوة في العالم أن تنتصر على سورية''.. كم نريد أن نصدق ذلك، ولكن عندما سينجلي دخان الضربة يصبح الوقت مفتوحا على إحصاء الأضرار والبكاء على الأطلال! والمحزن أن كثيرا من الحكام العرب غالبا ما يخطئون في تقدير الأمور وعندما يدركون حقيقة ما يجري تكون الفأس قد وقعت في الرأس! وفي المقابل ففي اسرائيل التي ستكون بلا شك المستفيد الأكبر من ضرب سورية، والتي يستطيع طيرانها الحربي أن يحلق فوق القصر الرئاسي السوري دون التعرض لأي أذى، أو الخوف من أي رادع، فإن وسائل الإعلام الصهيونية تحرص على إظهار صور الهلع والفزع في أوساط الاسرائيليين المتسابقين على اقتناء أقنعة الوقاية من الأسلحة الكيميائية لتبدو دائما في صورة الضحية المعتدى عليها والتي تضطر مكرهة للدفاع عن شعبها. أما في مصر قلب العروبة ودرع الأمة، فإن قوات الأمن مازالت تتوعد بمواجهة لا هوادة فيها مع مناهضي انقلاب 3 جويلية 2013 . وقد استطاعت قوات الأمن أن تقتل خلال الأيام التي أعقبت حركة الاحتجاج على الانقلاب عددا من المواطنين المصريين يفوق عدد الاسرائيليين الذين قتلهم الجيش المصري في حروبه مع الكيان الصهيوني وقد بلغت الاستهانة بالروح الإنسانية واسترخاص إراقة دم المواطن العربي إلى درجة أن رئيس اتحاد المنظمات الحقوقية في مصر لم يكتف بالإشادة بمهنية وسلمية قوات الأمن المصرية في عملية فض اعتصامي ''النهضة'' و''رابعة العدوية'' والتي سببت في إزهاق ما يقارب 1000 روح وجرح الآلاف من المعتصمين، وهو عدد يتجاوز كل ضحايا ثورة 25 يناير 2011 التي أدت إلى الإطاحة بحسني مبارك! بل إن ذلك المسؤول ''الحقوقي'' طالب بتصدير تجربة الشرطة المصرية في فض اعتصامي ''النهضة'' و''رابعة العدوية'' إلى بقية دول العالم وتدريسها في أكاديميات الشرطة في الخارج! ولعل من ساهم في تشكيل هذه النفسية المأزومة والعقلية الاستبدادية في الأمة العربية هو تلك الفئة الفاشلة التي تسمى ''بالنخبة'' المثقفة وإذا كان دور النخبة في المجتمعات الإنسانية هو إنتاج الأفكار وترويجها وتنوير طريق التقدم وترقية القيم وتحديث المؤسسات، فإن دور النخبة في المجتمعات العربية أو قسم معتبر منها أصبح ينحصر في تبرير الاستبداد وتغطية الفساد والتشبث بتميزها والدفاع عن امتيازاتها مهما كان الثمن ومهما بلغ مستوى التنازلات وحجم التواطؤات! ففي الوقت الذي تتعرض فيه الأمة إلى مخاطر التفتيت الدخلي نتيجة تصاعد النزعات الطائفية والمذهبية والعرقية، ومخاطر الغزو الخارجي وتدمير المنجزات التي تحققت بالكثير من التضحيات، يهتم قسم من النخبة العربية بخوض معركة غلق قناة الجزيرة، فقد أطلق أحد الكتاب والإعلاميين الفلسطينيين حملة على موقع التواصل الاجتماعي بهدف جمع أكبر عدد من توقيعات المثقفين العرب لغلق جميع مكاتب الجزيرة في الدول العربية، ويبدو أن حملته ''النضالية'' قد حققت نجاحا معتبرا في زمن قياسي، إذ تمكن - حسب قوله - من جمع أكثر من ألف توقيع لمثقفين وشعراء وإعلاميين وأكاديميين ومخرجين سينمائيين، أي مختلف الفئات التي تشكل كتلة النخبة المثقفة، كما أثمرت مبادرته ''الشجاعة'' بعد أيام قليلة من انطلاقها استجابة فورية من السلطات المصرية التي قررت إغلاق مكتب الجزيرة في مصر بعدما اكتشفت ''أن قناة الجزيرة مباشر مصر، قناة تعمل بلا سند قانوني أو معايير مهنية''! قديما قال شاعر الإباء العربي أبو الطيب المتنبي شطره الشعري الذي أصبح مثلا سائرا على مر العصور ''يا أمة ضحكت من جهلها الأمم''! فإذا كانت النخبة المثقفة في دول العالم تناضل وتضحي من أجل الدفاع عن الحرية والتعددية الإعلامية وحق الاختلاف، فإن قسما من النخبة العربية وخاصة النخبة العلمانية أصبحت تخوض معركة شرسة من أجل مصادرة الرأي المخالف وتكميم الأفواه وغلق منابر التعبير والتبليغ! وقد يستغرب البعض من ألا يجد مثقف فلسطيني أي حرج في أن يعتبر على رؤوس الأشهاد بأن معركته هي دعوة المثقفين لغلق قناة الجزيرة وليس معركته الأولى هي توعية وتعبئة الشعب الفلسطيني خاصة والشعوب العربية الاسلامية بصفة عامة للدفاع عن قضية بلده فلسطينالمحتلة وتحرير القدس المغتصبة، بل يجند طاقته وفكره لحشد الدعم من أجل إغلاق قناة فضائية عربية ساهمت - رغم أخطائها - في إبقاء القضية الفلسطينية همّا مشتركا بين جميع الشرفاء والأصلاء من العرب والمسلمين، كما أن الكثير من المثقفين المصريين الذين كانوا رموزا للفكر الديمقراطي أصبحوا مجرد أبواق للنظام الانقلابي الذي صادر الشرعية الانتخابية، ووصل الحد ببعضهم إلى المزايدة على قوات الأمن وإطلاق العنان لشهوة التحريض على قتل مواطنيهم الذين يخالفونهم في الاتجاه الفكري والحساسية السياسية. والسؤال الملح هو: هل تستطيع أمة يجثم على صدرها أمثال هؤلاء الحكام الطغاة والنخب الخائنة أن تنهض من كبوتها أو أن تتعلم من أخطائها وتحمي عرضها؟!