أخبر سبحانه وتعالى الملائكة بأنّه جاعلٌ في الأرض خليفة، ليعمّرها بنيانا ومزروعات وصناعات بجملةٍ من الابتكارات والاختراعات، ومساعدة منه سبحانه وتعالى، أعطاه مفاتيح تلك المهمّة بأنّ علّمه دون الملائكة الأسماء كلّها. وخليفة اللّه المقصود هو الانسان الذي لمّا زاد عدده زادت وطموحاته وآماله، فصار يسعى إليها ويعمل على تحقيقها بفيض من السلوكات والتصرّفات والأعمال، لكن بحدّة في التلهّف وافراط في السّرعة، ومع تكاثر البشر وكثرة مطالبهم المصحوبة بجشع لا مقاييس له ولا حدود، وممارسات عابرة للقواعد الأخلاقيّة، وما يجب أن تكون عليه الطبيعة البشرية السليمة التي استخلفها الله في الأرض، ضاع ذلك الائتمان الذي كان سائدا بين الناس في عصور كانت فيها كلمة الرجل مثل البارود إذا خرج لا يعود، إنها رأس ماله الذي يرتبط به شرفه وعزّة نفسه وسؤدد مقامه بين الورى، فهو إذا قطع عهدا أدّاه ، وإذا ضرب موعدا وفّاه، وإذا قال فعل ، وإذا التزم أدّى، ذلك أنه يُشهد الله بصدق، فيحترم تلك الشهادة بدافع نفسي أمين، لا يحتاج إلى شهادة الآدميين التي يعلوها الايمان بالله، ولا إلى رزم الوثائق وحزم الأوراق المشابة اليوم بالتزوير والتبديل والتغيير، لأن تقوى الله عند أولئك الرجال من السلف الصالح أصدق أنباء من تلك الأوراق والوثائق. أمّا والحال أصبح غير الحال، وتغيّر الناس من التمسّك بتلك المبادئ والقيم الانسانية السامية إلى السقوط الضحل في مستنقع الشهوات الفاسدة باتباع النفس الّجوج هواها، والتي هي الأمّارة بالسوء، فلا هي بتلك الراضية المرضية ولا هي على الأقل باللوّامة التي ما تفتأ تستقيم. هذا اللغط الذي ظهر في المجتمع واستفحل بفداحة في جلّ الأمور وبفضاعة صارت تُعالج القضايا، وبالافتراء والعبث والتهوّر غدت تُصنع الأحداث، وبقدر انتشار المخدّرات وتعميم الانحرافات راحت تُفبرك المسائل، وتُصاغ المشاكل التي أضحت رديفةً ليوميات الحياة لصيقةً بها. وإذا كان لا بدّ من وقفة مسؤولة على ما يجري فإن السبب والمسبّب هو الانسان وليس الزّمن كما يقول البعض ، لأن الزمن واحد من الأزل، ساعات وأيام وشهور وسنين، وعصور بليلها ونهارها، لا تقدّم ولا تأخّر، إنّما الانسان هو المتغيّر الثابت الوحيد فإمّا متطوّر وإما متخلّف. وبين التطوّر والتخلّف اختلف بنو البشر، تأثّرا بالعصر ومقتضياته الحداثية، من وسائل إعلام واتصال وبخاصة التجارية منها وما تنقل وتبثّ من اغراءات تشويقية تستهوي النفوس بما يطيب من ملذّات الحياة الدنيا. تحت الضغط الكمّي الهائل هذا، زيادة على وسائل التواصل الاجتماعي بما رحبت، ضاعت نواميس المجتمع وقواعده وأحكامه من أمان وائتمان ووفاء وشهامة رجالٍ لرجالٍ. زُرع مرض الخيانة، وبات من الصعب على الواحد منّا أو يكاد أن يجد من يأتمنه على ماله أو ولده أو عرضه أو حتى على سرّه، وهناك من يتظاهر بالغباء لكنه كالثعلب إذا لم يصل للدجاج في خُمّه فإنّه لا يبخل بإدخال ذيله في الخُمّ ليفزع الدجاج ويرعبه في بيته، أما الذكي فأنه يبدو لك ولأول وهلة شريرا محتالا ووكيل تهلكة لا محالة، أما الجاهل الذي لا يعلم أنه لا يعلم فهو بمثابة صاحب المال أو السلطة الذي يعتقد أن كل شيء قابل للبيع أو الشراء أو المساومة، بما في ذلك ذمم الناس ومواقفهم، يشجّعه ما يرى من تغيير المآزر الأخلاقية بين الفينة والأخرى إلا من رحم الله. هكذا اختلط الحابل بالنابل، فاستعصى الفرز بين الغثّ والسمين، وشاع الشك والقلق، وعمّت الكوارث المتلاحقة المطّردة، واِنتشرت آفات العصر بمساوئها، وسرت في مفاصل الأمة سريان النار في الهشيم، تيمّنا بالغرب وما أحدث من طفرة تليق به دون سواه، لأنها تضعه في مرتبة القائد لا المقود، المتبوع لا التابع. وإذا كان لابّد من أن نقتبس منهم ونتّبع بعضا من خطاهم فإن الرئيس الأمريكي زابراهام لينكولينس عندما كان محاميا تقرّب منه أحد الوجهاء الأثرياء ليوكّله ضد فقير مُعدَم على دَينٍ قدره دولاران ونصف الدولار رفض تسديده، فرضي المحامي الشاب أن يرفع له القضية أمام المحاكم بشرط أن يدفع الثري مقابل التكليف عشر دولارات مقدّما على أتعابه، فوافق الثري ودفع المبلغ على الفور بنيّة أن يُمرّغ أنف المُعوز في التراب، إلا أن المحامي الإنساني الذكي اِتصل بالمدّعى عليه وأعطاه خمس دولارات ونصحه أن يقوم بتخليص ما عليه من دَين في التوّ... فارتاح المدعي، ونجا المدعى عليه واستبقى لنفسه دولارين ونصف الدولار، وأخذ خمسة دولارات مقابل أتعابه المحامي الزعيم ابراهام ..!؟