الناثر الفرنسي العتيد، شاتوبريان، يقولها جهارا نهارا في مذكراته: على أوربا أن تتصدى للعثمانيين إذا كانت لا تريد أن تراهم عند أبواب باريس! وهي قولة أديب وسياسي في الوقت نفسه يريد أن يدافع عن حضارته، وذلك شأنه، لكنه يريد في مقابل ذلك أن ينصب خيمته في ديار الآخرين، أي في الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط. وهناك العشرات من أمثاله في تاريخ الفكر الأوربي الحديث ممن عزفوا وما زالوا على نفس الوتر، كما أن هناك العديد من أبناء الضفة التي ننتمي إليها ممن يؤمنون بجدوى الحوار في زمن اندثر فيه العراق وغابت فيه فلسطين الحقيقية وتشرذمت فيه أفغانستان إلى غير ذلك من أمثلة العنف والدمار. وليس هناك شك في أن الحوار أمر جميل جدا، لكن، بشرط أن يقف كل واحد عند حده وداخل حدوده. وهذه الحقيقة لا نجد لها وجودا في أدبيات السياسة العالمية الحديثة. يجيء أحدهم ويضرب أوتاد خيمته، هنا أو هناك، ثم يدعو إل فتح مثل هذا الحوار المجنون الذي لا وجود فيه للند قبالة الند. وإنما يعنيني في هذا المقام ما قرأته في روايتين اثنتين أولاهما إنجليزية لكاتب هندي وثانيتهما لكاتب فرنسي. لكأن اللمز والغمز أمران ضروريان في الكتابة الروائية الحديثة. كلا الكاتبين ينالان من عقائد الآخرين، ويعتقدان أن الدين الإسلامي هو سبب البلاء الذي تعانيه الإنسانية في أيامنا هذه. وينسيان في الوقت نفسه أن المسيحية تقتطع شهادة ميلادها في الديار العربية الشرقية، أي في الناصرة، بمعنى أن الحضارة التي يتمتعان بنعيمها إنما أهديت لهما على طبق من ذهب. فلم الغمز واللمز؟ ما أقل الكتاب المنصفين في العالم الغربي إذا ما تعلق الأمر بما يسمى حسب الأدبيات السياسية القديمة بالمسألة الشرقية عموما! الكاتب الإنجليزي رديارد كيبلنغ قالها في مطلع القرن العشرين: الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبدا! أما الشاعر الفرنسي لامارتين فجاء بكلام في غاية الإنصاف حيال الدين الإسلامي عندما وضع كتابه عن الرسول سيدنا محمد (ص). فكيف تختلف عقليتان حيال موضوع واحد وفي زمن واحد؟ وعندما تهجم برليسكوني على الإسلام وقذفه بأبشع التهم في السنوات الأخيرة، تصدى له عالم من بني وطنه وهو الكاتب إمبرتو إيكو، وأشار عليه بالسكوت، ذلك أن إيطاليا التي يسير دفتها عرفت مخازي ميسوليني وديكتاتوريته البشعة في حين أن أفغانستان طلعت على الدنيا بالعلامة جمال الدين الأفغاني، بمعنى أن المسافة الزمنية بين الأفغاني وميسوليني قصيرة جدا، والحضارة أمر نسبي.. المؤسف هو أن الحوار الذي يدعو إليه البعض من أبناء الضفة الجنوبية لا يستند إلى أسس، بل إلى عموميات ضحلة، ولذلك فهو لم ينجح طيلة القرن الماضي. والدليل على ذلك هو ما نراه من تشرذم بين أبناء الدين الواحد والأمة الواحدة. ولذلك، تتكاثر ردود الأفعال المتشنجة عندنا كلما صدرت رواية في العالم الغربي تنال من الدين الإسلامي أو كلما بادر رسام كاريكاتور إلى وضع بعض الشطحات على صفحات الجرائد. المهم هو الأرضية التي نقف عليها، وكيف ننطلق منها موحدين، لا لصد الهجمات البذيئة فحسب، إن في الكتابات الروائية وإن في الرسوم والأفلام، بل للتحاور فيما بيننا أولا وأخيرا.