ما واجهني وأنا ألج قصر المعارض وسط الشارقة المعروف بالإكسبو مشهد تؤثثه الحافلات موحدة اللون.. كانت صفراءَ، والمخصصة لجلب تلاميذ الأطوار التعليمية كلها إلى المعرض، ليشهدوا منافعَ لهم، كما قال لي علي الشاب المكلف بمرافقتي، كانوا كثيرين وموحّدي اللباس، بعضهم يستعدّ للدخول إلى المعرض في نظام بارز، وبعضهم قضى حاجته من الطواف على أجنحته التي تفوق الألف، فتحلقوا في ساحة القصر يستعرضون مقتنياتهم، لم أنتبه فانخرطت في صفوفهم، ورحت أبحث في وجوه الصغيرات عن الشبيهات بابنتي علياء، تركتها تبكي حين غادرتُ البيت إلى المطار، لم ألمس نفورا منهم، حتى أنهم عانقوني، وتحلقوا حولي لأخذ صورة، رغم أنني أرتدي لباسا أجنبيا بما يوحي أنني لست إماراتيا، وقد كان هذا السلوك من بين أول مظاهر التفتح التي لمستها في البلد، والتي سأرصدها في ورقة أخرى، ترصد تفاصيلَ رحلتي إليه. قادني فضولي إلى محاولة معرفة طبيعة الكتب التي اشتروها، فوجدت أن ذلك خضع للذوق الخاص للتلميذ، ولتوجيه من المدرسة، هناك مدرسة توجّه في هذه الأرض، وتتابع تلميذها، وإن العنوان الكبير الذي يلخص معاينة ما اشتروه من كتب: الذهاب إلى المستقبل. دخلت فضاء المعرض، فأجّلتُ الذهاب إلى دور النشر التي تعنيني، أو التوجه إلى مكتب الاستقبال للسلام على المنظمين وشكرهم على الدعوة، مواصلا تتبع خطوات الصغار.. ووجدتني أسأل نفسي: من الصغير منا؟ لقد كانوا يتعاملون فيما بينهم بعيدا عن الخشونة، يمشون برزانة.. يتواصلون مع الأجانب بإنجليزية لطيفة.. يردون على مكالمات أسرهم بلهجة إماراتية حلوة، لقد لاحظت أن الواحد منهم يتلقى مكالمة من أسرته في كل نصف ساعة تقريبا، هناك أسرة تتابع طفلها.. توفر له المال لتحقيق رغباته، فقد كانوا يدفعون على الأكل والكتب براحة واضحة، وهنا لا بد من التركيز على ملاحظة فيها الكثير من الرمزية: لقد توحدوا في اللباس لتكريس هوية يعتزون بها، واختلفوا في طبيعة الأجهزة الالكترونية التي لا تخلو يدُ تلميذٍ منها. لم أتعبْ في إيجاد ما أريده من دور نشرٍ أو قاعات نشاط، أو عناوين كتب، فالألواح الاكترونية المتوفرة في الجنبات تكفلت بإرشادي إلى الدقيق من رغباتي، صاحبتها مكاتبُ توجيه كثيرة يشرف عليها شباب يحسنون الكلام والابتسام، كان يُسْرُ الوصول إلى المعلومة هو القائد العام لخطواتي، وإن حدث أن نسيت نشاطا كنت أنوي حضوره مسبقا، فإن هناك أكثر من إجراء لتذكيري به، كأن تصلني رسالة الكترونية من مكتب الإعلام، أو أسمع نداءً من الإذاعة الداخلية للمعرض، أو أقرأ ذلك في الألواح الالكترونية المعلقة، لم يفتني نشاط واحد بسبب أنني نسيته أو أنني لم أستطع الوصول إليه، كما لم أجد صعوبة في الوصول إلى دار نشرٍ كنت أقصدها لذاتها. يدرك العاملون في مكتب الإعلام التابع للمعرض ما معنى البعد العالمي له، لذلك فهم يوصلون أدق تفاصيله إلى الإعلاميين في كل وقت، وبكل اللغات، وعبر كل الوسائل، لقد تعاملوا مع الصحفي على أنه شريك لا ضيف فقط، لذلك فقد لاحظت وأنا أتابع الإعلام المحلي والدولي خاصة المكتوب منه أن أصداء التظاهرة وصلت إلى قطاع واسع منه. إن التعامل مع الكتاب بعيدا عن اللمسة الجمالية يجعله يشبه التعامل مع أية سلعة عادية، وهذه إساءة إليه وإلى أهله.. أهل الكتاب كتابا وقارئين وناشرين، ولا شك في أن القائمين على المعرض الدولي للكتاب في الشارقة ينطلقون من هذه القناعة في تأثيث الفضاء جماليا، جمال الأجنحة.. جمال السجاد.. جمال اللوحات الإشهارية.. جمال الخطوط المستعملة في الكتابة.. جمال المطويات والملصقات والنشريات.. جمال الأصوات المعلنة عن تفاصيل المعرض.. جمال منصات النشاطات الثقافية.. جمال أزياء العمال المكلفين بالنظافة والإرشاد.. الكتاب في عرس، فلا مجال للرداءة والبشاعة فيه. ليس معرض الكتاب هو النافذة الوحيدة التي يطل منها المهتمون على مبدعي العالم ومبدعاته في الشارقة، بل هو حلقة في سلسلة سنوية طويلة وثرية، تصور أنك تقيم في مدينة تصحو فيها صباحا، فتجد صعوبة في اختيار النشاط الذي تذهب إليه لكثرة الأنشطة التي تعنيك.. هنا يتعب الإنسان في المفاضلة بين النشاطات على مدار العام، مثلما تعبتُ أنا على مدار أسبوع في المفاضلة بين نشاطات معرض الكتاب، لقد حدث أن بقيت نصف ساعة أناقش فيها نفسي في طبيعة النشاط الذي أختاره بناء على أولوياتي، أكثر من خمسمائة فعالية فكرية وفنية وثقافية وأدبية وإعلامية خلال عشرة أيام فقط. لقد تعمّدت وأنا أكتب هذه الانطباعات وسأفعل الشيء نفسه وأنا أكتب باقي تفاصيل رحلتي الإماراتية أن أتجنب المقارنة حتى لا أشوش على نفسي وعلى القارئ، فأعظم درس تعلمه القوم هنا هو: نافس... لا تقارن.