تداخل رجال الإفتاء الدينيون مع رجال الساسة المتحزِّبين في الشأن العام الجزائري وخاصة الروحي منه إلى درجة أن الإنسان لم يعد بإمكانه التعرف بشكلٍ واضح على أحدهما من الآخر، وإن تناقضت فتاوى زالشيوخس فيما بينهم فكذلك تضاربت فتاوى السياسيين حتى وإن تبادلوا الأدوار التي يدعو هؤلاء وأولئك من خلالها إلى الانتحار باسم الجهاد مرة ومرة للاقتتال باسم الوطنية، غير أن المؤكَد أنهم مجمعون على فرْض التطاحن والتناحر- كثقافة جديدة- بين أبناء الأمة الواحدة الكبيرة، بل بين الأشقاء في الدولة الواحدة، وقد يهون ما يصدر عن السياسيين من لغط ونفاق،نظرًا لانعدام الثقة بين المؤسسة السياسية وبين عموم المواطنين، غير أن ما يُفتِي به أصحاب العمامات الدائرية والقمصان الطويلة، أو ذوو اللحى الطويلة والأقمصة القصيرة، هو أشد على الأمة من القتل، لخطورة البذور التي يزرعونها في عقول الناس وقلوبهم، حيث لم تُثمِر في الصدور الغُلف غير فِتَنٍ ينام بعضها هنا، ويُحرِق بعضها الآخر كثيرًا من الوشائج تكوّنت هناك عبر الزمن، وتُدمِّر شظاياها ما بقي من أواصر، ظلت تُوحِّد الأمة لمئات السنين. يُعتبَر الاحتفال بإحياء المولد النبوي لهذا العام في الجزائر، الأقل ضجيجًا من الأعوام السابقة التي اعتاد الجزائريون فيها على تحويل أحيائهم الشعبية، إلى ساحات تُشبِه ميادين القتال، يخوض فيها الأطفال والشباب وبعض الكهول- في أوقات محدودة- حروب أفراحهم القاتلة، في شوارع مدنهم الحزينة طوال العام، إذ لا صوت في بضع أيام يعلو على صوت المفرقعات والمحارق، ويُهدِرون الملايير من الدينارات، التي يقطف أرباحَها خمسة عشر 15 بارونًا، احتكروا استيراد المفرقعات التي يُلهِبون بها كل ما ينبض بالحياة على ورق الخريطة، ففي احتفالات مولد العام الماضي وحده، جنى هؤلاء من تجارة الحرامأكثر من خمسة عشر 15 ألف مليار سنتيم، كما أكد ذلك الناطق الرسمي باسم الاتحاد الوطني للتجار والحرفيين الجزائريين، ولم يكن القانون- الذي صدر منذ خمسين عامًا يُحرِّم الاتجار بالمفرقعات والألعاب النارية- ليردعهم عن إغراق السوق بكل هذه المواد المحرّمة، حتى جعلوا من هذه المناسبة التي يفرح فيها المسلمون بمولد نبيِّهم وإمامهم ورسول الله منهم إلى كافة البشرية، مأتمًا لكثيرٍ من العائلات التي أصيب بعض أطفالها، وخلقت صداعًا كبيرًا لكافة مصالح الدولة، مما جعل الخيِّرين من أئمة الأمة ودعاتها والمصلحين فيها، يدعون إلى الإسراع في إيجاد آليات تُخلِّص هذه المناسبة السعيدة، مما علق بها من بِدَعٍ تضر بالسلوك العام للمسلمين، غير أن البعض تطرّف في دعوته حينما اعتبر كل مَن يُحييها أو يفرح بها ''مُتشيِّعًا'' بل ''مُتهوِّدًا'' وهو بذلك يحكم على الجزائريين والأغلبيةالغالبة من المسلمين، بأنهم كذلك منذ ما يزيد عن عشْرة قرون . لم يُنكِر أحد منآلاف العلماء والفقهاء والموسوعيين،الذين أنجبتهم الأمة، على المسلمين إحياءهم لمولد خير البرية والاحتفال به، وهو الرجل الذي ''وُلِد يتيمًا وعاش عظيمًا ومات كريمًا''، بل زكَّوْا هذه السنة التي سنّها السلف الصالح، لتذكير الأجيال الجديدة بسيرة أعظم رجل عرفته البشرية واصطفاه الله لهدايتها، ولن نغوص في أعماق التاريخ لاستذكار القائمة الطويلة من هؤلاء، إنما ندخل القرن العشرين فقط، حيث عاش للدعوة المحمدية وأوقف عمرَه لها وحدها، رائدُ النهضة الجزائرية، الإصلاحيُّ المجدِّد الإمام عبد الحميد بن باديس، ونصغي إليه وهو يقول: '' نحن نحبُّه- محمد صلى الله عليه وسلم- والمحبة تدعونا إلى تجديد ذكرى مولده كل عام'' ويوضِّح الصورة أكثر العلامة الشيخ البشير الإبراهيمي بقوله: ''نحن نحتفل بالمولد فنُجلي فيه السيرة النبوية، والأخلاق المحمدية، ونكشف عما فيها من السر، وما لها من الأثر، في إصلاحنا إذا ما اتبعناها، وإحياء ذكرى المولد النبوي هو إحياءٌ لمعاني النبوّة'' إلا أنه في زمن الخواء المعرفي والديني، والفراغ السياسي والثقافي، ظهر أفرادٌ شيَّخوا أنفسهم علينا، وجلبوا حولهم أنفارًا إما أن الحياة لفظتهم، وإما أنهم لم يستطيعوا فهْم الحياة كمعبر ربّانيٍّ إلى الآخرة لم يخلقها الله عبثًا، وراحوا يستوردون فتاوى سياسية في تسويق ديني، رفعها غيرُهم باسم الدِّين، ليُظاهِروا بها- طائفيًّا-مَن يختلفون معهم سياسيًّا، ونشروا روائحها المضرّة بين الجزائريين، حتى زكموا بها أنوف الجميع، وهو ما جعل البعض يقول: إن الحجاز الذي كان مصدر إلهام إسلامي متجدِّد في وقت سابق، أصبح مشتلة لتفريخ الفِتَن التي أصبحت تلاحق المسلمين حيثما كانوا . امتدت فتاوى ''الرافضة'' من رفضهم فرحة الجزائريين بيوم مولد رسول الإنسانية، إلى تشويه إحدى خصوصيتهم الأمازيغية، التي لم يُلغِهاالإسلامُالذي حمله لهلهم عقبة بن نافع وصحبه، بل انتشر بها أكثر في أوروبا وإفريقيا، وسمعنا مؤخَّرًا مَن أضاف إلى زفتواهس بحرمة الاحتفال بمولد خيْر خلق الله، الفرحة التي يصنعها الجزائريون كل سنة، في الثاني عشرمن شهر جانفي باسم ينّاير، وهو اليوم الذي هزم فيه ملك الأمازيغ شيش ناق تحت لواء إرادة الخيْر، فرعوْن الثاني الذي كان يمثِّل إرادة الشر منذ ما يقارب العشرة من القرون قبل ميلاد السيد المسيح، والمناسبة هي رمز للتآخي وتأليف القلوب والتشبّث بالأرض، أليس حب الوطن من الإيمان ؟ ولا أدري لماذا أغفل هؤلاء الحقيقة التاريخية الثابتة، وهي أن الإسلام الذي جاء به نبيِّه الأمين من ربِّ العالمين، قد أبقى على كل القيَّم النبيلة التي كانت تُزيِّن البيئة العربية القديمة، ولم يُلغِ الخصال الحميدة للعرب، ولا تلك التي وجدها لدى جميع الشعوب الأخرى، التي ارتضت الإسلام عقيدة لدينها ومنهاج حياة لدنياها، حتى جاء خلْف من بعد ذلك، أنكر على الإسلام ما أباحه، وهو ما يُحتِّم على ولاّة الأمور ممن بيدهم شأن هذه الأمة، أن يضعوا - ككل الأمم- خطوطًا حُمْرًاأمام المتنطِّعين الذين لم يستحوا وهم يتهمون الناس- بغير علم- مرة بالرِّدّة، وبالكفر أكثر من مرة، وهم بذلك إنما يعملون على تفكيك ثوابت الهوية المشتركة،ويعبثون بوحدتها الوطنية وبسلمها الاجتماعي وأمنها الاستراتيجي، سواء كان العابث يتحرّك بحسن نية نتيجة جهله بما لا يعلم، أو متعمِّدًا يقصد تفكيك أواصر الانسجام الاجتماعي والثقافي والروحي، التي توطّدت بين شعوب الأمة الواحدة منذ مئات السنين.