يبدو أن هناك فراغا كبيرا في معرفة الجزائر بأبنائها أو تعرفها عليهم، حتى لا نقول إن هناك إقصاء متعمّدا لكثير منهم أو تغييبهم عن ورثتهم من الأجيال الجديدة، بسبب التوجهات والمواقف والأيديولوجيا التي عرفوا بها من أجل تحرير الجزائر وإعادة بنائها ليس أكثر .. هل ما فعلته السيدة العدواني خيرا عندما"هرّبت"زوجها محمد الطاهر، ليموت بين يديْها ولكن بعيدا عن الأرض التي أحبّها مخلصا وجاهد صادقا من أجل تحريرها من ربقة الاستدمار الفرنسي، وبعثها في أهم وثيقة ما زالت المرجع الذي تردّ به الجزائر على كل أولئك الذين أنكروا عليها وجودها قبل تاريخ الاحتلال عام 1830، وهو الكتاب الوثيقة الموسوم ب"الجزائر منذ نشأة التاريخ"، هل تُعذر هذه السيدة الفاضلة وهي تغمض عينيْ حبيبها في القاهرة، بعدما رأت من أهل زوجها المنتشرين على كل المستويات في الجزائر القارة، جفوة سياسية تجاه أحد مؤرخي الجزائر الكبار وواحد من مجاهديها العظام، ليس لها من مبرر سوى تمكّن آفة الجحود والنكران من بعض العائلات السياسية فمارست التناسي أو الإقصاء على كثير من المتميزين من أبناء هذا الوطن وفي مختلف الميادين ؟ ربما ! المرحوم الأستاذ الدكتور محمد الطاهر العدواني القادم من صفاء الرمل بواحة الزڤم الواقعة على تخوم مدينة الوادي سوف، والوافد على صفوف الثورة التحريرية المسلحة في سنواتها الأولى، تخرج على يديْه عبر العشريات الأربع الماضية جحافل ممن آلوا على أنفسهم حفظ تاريخ الجزائر وتنقيته من كل ما علق به من أدران كتاّب الاحتلال، ما زالت تذكره- فقط- كواليس وزارة الثقافة وقد كان مدير البحوث والدراسات التاريخية بها ، كما تذكره الجامعة العربية وهو الذي كان مدافعا شرسا بها عن الهوية العربية الإسلامية المقدسة التي أثارت- وما زالت- حفيظة وحقد الدول الكولونيالية القديمة التي ُتجدّد خبثها بأساليب ظاهرها فيه الخير وباطنها سمّ شديد الفتك، تذكره عندما كان مديرا بها أو حينما أصبح ممثلها في باريس، ولعل الجمعية الجزائرية للدفاع عن اللغة العربية تكون قد خسرت محاميا كبيرا لا يعدم الحجة والبرهان في الانتصار لها أمام الجاهلين والجاحدين والمتنكرين والمنسلخين والعملاء . مسؤولية من عندما نفرّط في مثقف أوقف العمر دفاعا عن ثوابت شعبه وأمته، ونتركه يموت بعيدا عن حضن الوطن؟ مسؤولية من حينما نتخلى عن مجاهد صادق ما عاهد الله عليه من أجل القضية الوطنية ينعاه أخوال أبنائه خارج بلاد وّظف سنيّ حياته في الذود عنها؟ مسؤولية من لما نستغشي أعمالنا ومشاغلنا التافهة عن رؤية أبناء الوطن الحقيقيين وهم يرحلون إلى لقاء ربهم عرايا من توديع يليق بهم إلا بالصمت المطبق الذي لا يكسر سكونه غير أسطر شحيحة مرمية في الصفحات الداخلية لبعض الصحف، في حين يثار الصخب الكبير حول ظهور أو رحيل الصغار الذين لم يرفعهم غير زبد السياسة العابرة . صحيح أن العظماء لا يموتون إنما تتجدّد حياتهم يوم وفاتهم، ويبعثون في كل عصر مع جيل يعيد اكتشافهم، ويؤرخ بهم لعصورهم، فأبو الطيب المتنبي صاحب السيف والقرطاس والقلم، يعرف الناس عصره من خلال معرفتهم به هو، ولا يكادون أو لا يريدون أن يعرفوا حكام عصر المتنبي، وربما سمعوا بصفة سيف الدولة التي أطلقها على الحاكم يومئذ دون أن يعرفوا اسم الحاكم، وحمدان خوجة هو أشهر من كل سفاحي تلك المرحلة من الفرنسيين الذين احتلوا الجزائر، ولا يرى الدارسون والمؤرخون والساسة الموضوعيون العالم إلا من خلال"مرآته" التي كتبها، فعكست واقعا كان ذات تاريخ في رقعة من خارطة الأرض، وأبو القاسم الشابي يصدح بشعره على الدوام، متذوقو الشعر ورواده وكل الأحرار أينما كانوا، ولا أحد يهمه أن يعرف- إلا المختصين- من كان يحكم في عهد الشابي، ولكن الصحيح كذلك أن الأمم الحرة القوية هي تلك التي تقيم لعمالقتها تماثيل في قلوب شعوبها وتنقشها نقشا في ذواكرهم، فلا تغيّر فيها النزوات السياسية ولا تشوّهها المنزلقات الثقافية ولا تطيح بها التشنجات الاجتماعية . إننا نمارس ثقافة الفلكلور في التعريف بذواتنا، فنهتم بالغث فيها ونعزف عن السمين أو نخفيه، ونوغل في الحديث عن الماضي الذي لم يعد سوى استراحة مسافر، ونترك الحاضر بمعالمه الوضاءة يتآكل، ومع ذلك نقول إن لنا وزارة للثقافة نباهي بها الأمم الأخرى، والأجدر أن نسميها وزارة الحفلات والرقص، ونمارس ثقافة الانتحاب في احتفالاتنا برموزنا وأعيادنا، ونكاد ننغرس في طقوس البكاء البعدي على الميت بعد أن يصير رميما، فكم من احتفال أقمناه لموتانا"المحظوظين"هو أولى بأحيائنا حتى لا نستعجل سفرهم، ولا نلتفت إلى العظام الكبار منا حتى يرحلوا، فكأننا نخاف من وجودهم بيننا، وعندما يصطحبهم الموت بعيدا تختار وزارة المجاهدين مَن تتبناه منهم وتجعله رقما في أجندة احتفالاتها التي تًجند لها الباقين من الأحياء للتآبين ذات المآرب السياسية في كثير من جوانبها، وهو ما يجعلني أعتقد- من غير تجني- أننا نكون أخطأنا في تسمية هذه الهيئة التي كان جديرا بأن تحمل اسم مهامها، وهو وزارة الشهداء أو وزارة الضحايا- مع احترامي الكبير لكل المجاهدين الصّدقاء- ذلك أن ما نقوم به هو حقا عملية تثبيط للعزائم أصبحت سلوكا عاديا يعيق عمل العاملين، فلا أحد من الجيل الجديد- وهو يرى قدوته تسقط- يريد أن يسير في طريق مطفأ المصابيح مطموس المعالم . هل ننتظر جيلا- قد يكون بعيدا- يعيد قراءة تاريخ أبطال الجزائر قراءة صحيحة وفية واعية هادفة خالية من الحسابات الايديولوجية والحزبية والقبلية، ومن ثم يأمر بترحيل المغفور له محمد الطاهر العدواني من مرقده الذي دخله بعد ستة وستين عاما من الوجود" الإيجابي"، وإعادة دفنه في مربع الشهداء ليًوصل حلقات السلسلة المباركة- التي تم تفكيكها- في كفاح الجزائريين الذي ابتدأه الشهداء ورفاقهم ممن لم يبدلوا تبديلا، إننا نعمل على ذلك وننتظر، وإننا لمن المنتظرين المؤمنين بقدوم تلك اللحظة الحاسمة ...