تظل الحرية دائمًا إجابة مشرقة، إذا أعيد سؤال عن الجهة التى على الشعر أن يقصدها كى يعانق ذاته ويقتنص ماهيته، فلا خلاف على الحرية كوجه للشعر، وروح تنبغى له وينبغى لها. لكن هذه الإجابة المشرقة، بصدقها وبساطتها، لا تلغى غيومًا تلوح فى الأفق عند إثارة سؤال آخر عن خطوات الشعر حتى يبلغ مراده، بمعنى: كيف يصل الشعر إلى حريته المنشودة؟ وكيف يثور على الممكن، لينجز ممكنًا أخصب وأرحب؟ وليس بخاف أيضًا على الشاعر الحصيف تلمُّس أن الهم الإنسانى المشترك هو أطروحة الكتابة المقبولة، وحدها دون سواها، فى ظل إلغاء الحواجز والحدود، على المستويات كلها، بين الشعراء بعضهم البعض، وبينهم وبين قرائهم فى أى مكان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان على وجه العموم. ويكتمل عقد استراتيجيات القصيدة الجديدة باستنباط الشاعر، الذكى بالضرورة!، أن المجال متاح ليقول ما يشاء، وقتما يشاء، بالطريقة التى يشاء، وأن النشر الإلكترونى عبر الإنترنت، فى صفحات موقعه الشخصى أو الاجتماعى أو مدونته أو فى المواقع والصحف الإلكترونية ذائعة الصيت، أعفاه من كثير جدًّا من البوابات السلطوية والنخبوية والرقابية التقليدية، ومكنه من النشر بسهولة، بل إنه أحيانًا يمتلك حق تنسيق وتنميق وتثبيت قصيدته بيده فى هذه الصحيفة أو ذلك الموقع، والإعلان عنها فى الصفحة الرئيسية. ومنطقى أيضًا أن يختار الشاعر لكتابته الجديدة هذه وعاء لغويًّا حيًّا، سهلاً، حيث إن التواءات المجاز تعوق كثيرًا سيولة التداول الشعرى، الذى يحلم به. إنه عصر الفرص المتاحة حقًّا، عصر العدالة الافتراضية المتحققة بقدر مقبول جدًّا، فالعلاقة صارت مباشرة إلى حد كبير بين الشاعر وبين الجمهور فى الفضاء الرقمى، وتقلصت مسؤولية مؤسسات الدولة، بل كل المؤسسات. الشاعر الآن لا ينتظر إقرارًا من أحد، ولا توقيعًا على مخطوط ديوانه، كى يكون. حتى النشر الورقى ذاته، يبدو وقد تأثر كثيرًا بهذه الثورة الرقمية، فلا ينكر أحد أن تسهيلات عظيمة للغاية قدمتها دور النشر الخاصة، فى مصر وسورية ولبنان على سبيل المثال، فى السنوات الأخيرة للشعراء والأدباء الراغبين فى النشر لديها، ولا أظن أن مساهمة مادية غير مبالغ فيها من الأديب فى تكلفة نشر كتابه ستقف عائقًا أمام طموحه فى الوجود والتحقق، خصوصًا أن الكتابة صناعة فى الأساس، وأنه إن حقق كتابه رواجًا تسويقيًّا، فسوف يتنفع هو ماديًّا، بالقدر الذى ينتفع به الناشر. أما سلاسل النشر الحكومية، فإنها، كما فى مصر مثلاً، على الرغم من بيروقراطيتها وانحيازاتها النسبية للتقليدى لا تبخل فى إعطاء الأصوات الجيدة والجديدة دورها، وسط العديد من الأصوات الرديئة التى تأخذ دورها أيضًا لإثبات النجاح الكمى لهذه السلاسل، التى لا تكاد تعقل أساسًا فكرة الكيف أو التميز النوعى! نحن نعيش عصرًا رقميًّا، هذه حقيقة، ولا يمكن أن تغيب تأثيرات وانعكاسات هذه الرقمية، كنمط حياة، عما يكتبه الشاعر الحقيقى اليوم، وإلا فإنه يكتب عن عصر آخر، ويعيش حياة أخرى، فوق كوكب آخر! والنشر الإلكترونى للشعر هو أحد، وليس كل، وجوه الاجتياح الرقمى للشاعر. لكن الأهم بالتأكيد من اختيار الشاعر للرقمية كوعاء جديد للنشر، أن يكون ما فى الوعاء جديدًا، معبرًا عن معاناة الإنسان فى العصر الرقمى الخانق. وهذا يقودنى مرة أخرى إلى السؤال المحوري: لماذا لم ينتهز الشعراء هذه الفرصة؟! وماذا تنتظر القصيدة الجديدة كى تصبح خبز المائدة؟! أدعى أن حياة الشعر مرهونة فى الأساس بكونه شعر حياة، فبقدرة النص الحيوى على النبض الطبيعى والحركة (الحرة)، بدون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسجين وأطراف صناعية، تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الحقيقى، ويمتد عمره الافتراضى خارج المكان والزمان. بصراحة تامة: الأزمة أزمة إبداع فى الأساس، فقبل أن نطالب بأن يعود الشعر خبزًا خالصًا للقراء، ملقين باللوم على القوى القاهرة والشروط والعوامل المساعدة، يجب أن يلغى الشاعر أولاً المسافة بينه وبين نفسه، وبالتالى تذوب المسافة بينه وبين قارئه، وتخترق قصائده كل الحدود، بحريتها وثوريتها، بقوتها الذاتية، لا بأى دعم خارجى. إن حضور القارئ، بل حلوله، فى الماهية الإبداعية الملغزة، هو وضع طبيعى يعكس انفتاح المبدع كإنسان على أخيه الإنسان، ويعكس انفتاح الكتابة الإبداعية الجديدة على العالم الحسى المشترك، والوقائع والعلاقات المتبادلة، وأيضًا على الأحلام والهواجس والافتراضات والفضاء التخيّلى غير المقتصر على فئة نخبوية من البشر دون سواها! لقد أفسد الوسطاء (الذين لا يمتنعون) كل شيء، حتى صفاء العلاقة بين الشاعر وقارئه، عفوًا بين الشاعر ونفسه، فصار الشاعر يخاطب نفسه عبر وسيط، ويرى الحياة من خلال مناظير وتليسكوبات، مع أنها أقرب إليه من حبل الوريد! لقد أفسد الوسطاء ليس فقط الرؤية الحرة للعالم، لكن أيضًا تشكيله أو إعادة صياغته كما يقول البعض، فحلّت الأغذية المعقدة، المليئة بمكسبات الطعم والألوان الإضافية والمواد الحافظة، محل الصحى المستساغ المؤثر البسيط، الأقرب إلى الفطرة والبدائية، وهو الذى يترفع عنه البلاغيون المقولبون وذوو المفاهيم المعلبة، مع أن خبزهم اليومى وحصادهم المعرفى فى جوهره من طحين البشر فى علاقاتهم وتفاعلاتهم الطبيعية، ومع أنهم ارتضوا بنشر أعمالهم فى كتب ومجلات من لحم ودم، يتم عرضها فوق أرفف مكتبات، وعلى أرصفة شوارع مزدحمة تدوسها أقدام البشر العاديين! ليست هناك مسافة أصلاً بين الشاعر والقارئ، شرط ألا تكون هناك مسافة بين الشاعر ونفسه. إن الشاعر الذى يقول ما لا يطمح أحدٌ أن يقوله أو يسمعه، أو ما لا يصلح أن يردده أحدٌ غيره، هو فى الحقيقة لم يقل شيئًا، لأن فعل القول هنا أحادى ناقص، على أن هذا الأمر لا يتنافى مع مسلّمة أن الشاعر الكبير يجب أن يكون مغايرًا متفردًا، وتلك هى المعادلة الصعبة. إن الاستمتاع الذاتى بالكتابة الحرة، كغاية أولى وأخيرة للشاعر، ووضاءة الاستشفاف النقى، وفردانية التعبير، وخصوبة وعمق التكثيف الشعرى لحركة الحياة، والقدرة على بلورتها بذكاء فى قطرات مضيئة مدهشة، أو ما يمكن تسميته عمومًا بشعرية الشاعر، وآلياتها، ليست أبدًا عوازل حرارية ولا أبراجًا عاجية، تفصل روح الشاعر المتقدة عن أرواح أخرى أقل أو أكثر نشاطًا تدور فى الفلك نفسه، لكنها كلها تشكل جوهر الشاعر الفذ المتّقد، وطاقته الكبرى التى تمكنه من الالتصاق الحميم أكثر بالأرواح التى هى ملتصقة به أصلاً، فيقول الشاعر بفعل هذه الطاقة المتوهجة الثورية ما يتمنى القارئ أن يقوله إذا توفرت له هذه الصلاحيات التعبيرية التفجيرية.