تظل الحرية دائمًا إجابة مشرقة، إذا أعيد سؤال عن الجهة التى على الشعر أن يقصدها كى يعانق ذاته ويقتنص ماهيته، فلا خلاف على الحرية كوجه للشعر، وروح تنبغى له وينبغى لها. لكن هذه الإجابة المشرقة، بصدقها وبساطتها، لا تلغى غيومًا تلوح فى الأفق عند إثارة سؤال آخر عن خطوات الشعر حتى يبلغ مراده، بمعنى: كيف يصل الشعر إلى حريته المنشودة؟ وكيف يثور على الممكن، لينجز ممكنًا أخصب وأرحب؟ أن ينادى الشعر بالحرية أو يهتف باسمها فى الميادين شيءٌ، وأن يحقق الحرية بيديه، فى ميدانه هو، شيءٌ آخرُ. أن تصفق قصيدةٌ لثورة أو حتى تباركها قبل اندلاعها أمرٌ، وأن تكون القصيدة بذاتها ثورةً مكتملةً أمرٌ آخر. الشاعر الطامح إلى التفرد يراهن دائمًا على أدواته هو، احترامًا منه لاستقلالية الشعر، وغناه، واستغنائه، وقدرته على أن يفعل، لا أن يكون صدىً صوتيًّا لأفعال. أما الازدواجية بعينها، بل الفكاهة المؤلمة، فهى أن تمجِّدَ قصيدةٌ قيمةَ الحرية، وتغذِّى وقودَ الثورة، فى حين تجدها الذائقةُ الفنيّةُ نصًّا مقيَّدًا بتبعيّته لغيره، وآلياته المكرورة. تطل علينا الحرية بوجوه ومفاهيم كثيرة، ومن ثم تتباين تجلياتها فى التجربة الشعرية الحديثة، التى رفعت الحرية شعارًا لها منذ الرواد، حتى آخر أجيال قصيدة النثر. بل إن الشعر الجديد نفسه تسمى باسم الشعر الحر فى بعض مراحله، واقترن مفهوم الحرية وقتها بفعل فيزيائى هو كسر عمود الخليل، بغض النظر عن العوامل الأخرى. إن اختزال مفهوم حرية القصيدة فى ملمح واحد أو عدة ملامح محدودة يخل كثيرًا بالتحرر الفعلى للقصيدة، فتعليق التحرر على المعارضة السياسية (اللا تصالح!) ورجم الطغاة وإلهاب الجماهير وما نحو ذلك يحول القصيدة إلى مانفستو أو بيان ثورى، وربط التحرر بالانفلات الدينى يقود إلى طرح منشورات تجديفية، ومنح دور البطولة للفعل الجنسى الفج يصل بالقصيدة إلى خانة البورنوغرافيا، وقصر التحرر على الانحراف اللغوى والجموح التخييلى يفرغ القصيدة إلا من بروازها الخارجى. إن هذه التصورات كلها، وغيرها، أضرت بشعرية القصيدة الجديدة، رغم أنها ولدت من رحم الدعوة إلى الحرية، والثورة على النمطى والسائد. الحرية التى تطمح القصيدة الآنية إلى إنجازها، هى ببساطة حرية الوجود والتحقق والتفاعل والاكتفاء الذاتى، أى أن تكون القصيدة هى فعل التحرر على كافة المستويات، والثورة المكتملة بذاتها، لا أن تكون بيان الدعوة إلى التحرر والثورية، وأن يحدث هذا التحرر وتلك الثورية فى سياق طبيعى حيوى عفويّ، والأهم أن تستقل القصيدة تمامًا بشعريتها، وتمشى على الأرض وتحلق فى الفضاء بطاقة أدواتها وجمالياتها الفنية فقط، بدون أن تنفصل بالطبع عن معطيات واقعها، ومستجدات عصرها. الهوة واسعة جدًّا بين ثورة القصيدة بفضائها الرحب، وبين قصيدة الثورة بمعناها الضيق. على الشعر أن يكون فى الأساس شعرًا، وأن يتحرر من كل تبعية، ومن كل شيء، إلا الجوهر الشعرى الأصيل أو الشعرية الخام النقية بالتأكيد، وهذا لم يحدث للأسف الشديد إلا فى حالات نادرة للغاية فى تاريخ الذائقة العربية، تلك التى أفرزت، وتفرز، الشعرى على أنه تابع دائمًا للبوابات السلطوية، فالمتنبى مثلاً، على عبقريته، هو أنبغ شعراء البلاط (السلطة الرسمية)، ومحمود درويش، على خصوبته الإنسانية وتمكّنه الفنى وتجديده، هو شاعر القضية (السلطة الشعبية كما يرى البعض، والسلطة الفلسطينية كما يرى آخرونغاية العدالة، الحقيقية والافتراضية، أن يكون المحك الجوهرى لامتحان القصيدة الجديدة هو القصيدة نفسها، حيويتها، طزاجتها، فرادتها، قدرتها على تمثل روح عصرها، قابليتها للاستساغة الطبيعية وإشباع الأذهان والحواس بما يُغنى ويُمتع فى الآن ذاته. لقد ربط الأغلبية تراجع القصيدة العربية فى السنوات الأخيرة بأسباب إجرائية، وزاد الحديث عن الشروط والعوامل الخارجية، التى عرقلت، بل حاربت، تحليق القصيدة فى فضاء المشهد، واستردادها مجدها الذهبى الضائع، بل المسلوب منها ومن مبدعها الشاعر المهضوم، المتعرض للتصفية بفعل القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتحالفة ضد الشعر والشعراء ، وبفعل القوى الثقافية الفاسدة بشلليتها وضحالتها وتقليديتها وبانحيازها غير المبرر إلى الرواية!)، بل والأغرب بفعل الجمهور ذاته، الذى تواطأ مع هذه القوى، وزهد فى الشعر المعبّأ خصيصًا من أجله فى قوارير نظيفة فاخرة، مما تستخدم فى حفظ إكسير الحياة وفيتاميناتها الموصوفة! رغم غرابة هذا المنطق، وشذوذه، فإنه ساد المشهد الثقافى لسنوات طويلة، ولم يمتلك أحد، خصوصًا من الشعراء، الشجاعة الكافية ليقول بثقة وبأعلى صوت: الأزمة أزمة قصيدة فى الأساس أيها الأصدقاء، وما تتحدثون عنه من عوامل انحسار الشعر، وتراجع دوره، يبقى مجرد عوامل مساعدة، ولو تم جدلاً عزل القصيدة خارج هذه العوامل، لتحل محل الهواء فى الأنوف، ومحل أشعة الشمس فى العيون، لبانت الفضيحة عارية، فليس كل ما تتاح له الفرصة ليوضع على المائدة كخبز خالص للبشر يصلح لأن يكون خبزًا خالصًا بالتأكيد. هذا هو سؤال الحرية الأصعب على الإطلاق، والامتحان الحقيقى الذى تخوضه القصيدة الجديدة الآن، وأظننى واحدًا من كتابها، حيث تطمح إلى استرداد وضعها الطبيعى فى هذه الحياة، من خلال شعريتها، وشعريتها فقط، وليس من خلال البوابات السلطوية والنخبوية والوسائط والوسطاء والمنظّرين والمروّجين والمسوّقين، ولا حتى من خلال القضايا المصيرية والجماهيرية والثورات والنبوءات الكبرى، التى تتمسّح بها لتستدر التعاطف والتصفيق. أرى أن اللحظة مناسبة تمامًا الآن لعودة القصيدة الحقيقية الحيوية، المستقلة، أو ميلادها بصورتها النقية، بل لعلها اللحظة التاريخية الأكثر مثالية منذ سنوات بعيدة، بعد أن انهارت الوسائط التقليدية لتوصيل النص، وانقاد النقاد والوسطاء الانتفاعيون إلى مكان بارد فى الذاكرة، معلنين إفلاسهم، وعدم قدرتهم على التمرير والمنع فى عصر الرقمية والفضاءات المفتوحة. ومع ذلك، فإن القادرين على استغلال الفرصة من الشعراء العرب الموهوبين يمكن عدهم عدًّا على الأصابع، لأن جوهر الأزمة لا يزال قائمًا، وهو الجوهر الشعرى نفسه، المعدن الأصيل فى صورته النقية المجردة، وما أندره وسط هذا الفيضان الشعرى الزاعق الجارف! إن المنطلقات والرؤى المغايرة، التى تخص الشعر والكتابة الجديدة عمومًا، تفرض نفسها بقوة، والمعطيات النظرية لكتابة القصيدة تجاهد كى تتفعل أوتوماتيكيًّا بلا صعوبة تكاد تُذكر، فالشاعر الآن بقدر من الذكاء، ولا أقول الموهبة، قادر على استشفاف أنه يعيش فى عالم رقمى، وغرفة كونية صغيرة، وأن القضايا المصيرية الملحّة التى تعنيه وتعنى غيره من البشر صارت تتعلق فى الأساس بوجود الإنسان كإنسان فى هذا العالم أكثر من تعلقها بالعارض الزائل من قضايا سياسية واجتماعية وما شابهها.