لا أذكر أين قرأت، منذ زمن بعيد، عن تلك العجوز التي كانت تعيش في إحدى القرى الجبلية بمنطقة القبائل والتي لم يكن لها سوى ابن واحد مغترب بفرنسا، ومع انطلاق الثورة التحريرية وانتشارها راح الشباب يلتحقون بها الواحد تلو الآخر ولم يبق منهم من لم يحمل السلاح ويقاتل القوات الفرنسية سوى ابن العجوز المغترب بفرنسا. النساء كن، في لقاءاتهن اليومية، لا حديث لهن إلا عن أزواجهن وأبنائهن المجاهدين وبطولاتهم، وكانت العجوز ذات الابن الوحيد تشعر بالحرج الكبير وكذلك بالتقصير في حق الوطن، مما حدا بها إلى أن ترسل لوليدها راجية منه العودة بأسرع ما يكون لأنها في أشد الحاجة إليه. لما عاد الابن المغترب قالت له الأم كيف تقبل بالبقاء في بلد العدو بينما كل شبابنا يحاربونه ويعملون على إخراجه من بلدنا، فما كان منه إلا الاستجابة لرغبتها والالتحاق بالثورة. بعد أشهر قليلة استشهد وحيد أمه في معركة وقعت بالقرب من تلك المنطقة، وبعد التعرف على الجثمان الطاهر جيء به إلى القرية ووضع في ساحتها. الأم لم تصبر أمام مرأى جثمان فلذة كبدها فانهمر الدمع من عينيها وراحت تبكيه بحرقة المرأة التي ثكلت في وحيدها. الضابط الفرنسي الذي كان يشرف على العملية توجه إلى العجوز، عن طريق المترجم، قائلا لها: لم تبكينه.. ألست أنت من دفع به إلى الفلاقة ليموت معهم؟ وقفت الأم من على جثمان ولدها ونظرت إلى الضابط الفرنسي قائلة له: »أنا لا أبكي ولدي لأنه استشهد، بل أبكي نفسي لأنه ليس لدي ولد آخر أدفع به إلى الثورة«. هذه الحادثة واقعية من الثورة المسلحة وهي ليست بالحادثة اليتيمة أو النادرة، فقد حدث منها الآلاف. الشعب الجزائري بلغ طوال 2694 يوم من أيام الثورة المسلحة )من 1 نوفمبر 1954 إلى 19 مارس 1962( قمة التضحية ونكران الذات بل هناك من المجاهدين الحقيقيين من يتكلم عن هذه المرحلة وكأنها حدثت في زمن آخر وبأناس آخرين، أو كأنها كابوس مزعج دام فترة من الزمن وانتهى. أحداث الثورة كانت متسارعة بشكل لا يمكن تصوره، فالمعارك لا تتوقف ليلا نهارا، والموت كان يحصد من الجزائريين بالمئات يوميا. ممارسات الجيش الفرنسي لم يكن لها حدود. الطائرات كانت تقنبل كل القرى والمداشر دون تمييز فكل جزائري هو فلاقة يجب أن يقتل. شعب كامل يعيش في ترحال دائم ينزح من هذا المكان إلى ذاك هروبا من البطش والتعذيب. المجاهدون الذين ألقي عليهم القبض وسيقوا إلى السجون كانوا، في السنوات الأولى لاستعادة السيادة الوطنية، يتكلمون عن أشياء فظيعة وقعت بالمعتقلات الفرنسية، كما أن المجاهدات اللواتي وقعن في الأسر تعرضن لتعذيب لم تشهده سجينة من قبل. السفلة من عساكر بيجار وغيره من الجنرالات الفرنسيين كانوا يمارسون جنونهم وعقدهم النفسية بالاعتداء جماعيا وبشكل فظيع على شرف المسجونات الجزائريات. ضحايا التعذيب يقولون أن الفرنسيين استحدثوا أساليب تعذيب لم يسبقهم إليها أحد في العالم. كانت لي فرصة لزيارة معتقل أوشويتز ببولونيا والذي يقال أن جنرالات هتلر كانوا ينقلون إليه اليهود ليعدموهم بالغازات، وقد فاجأت الدليل اليهودي، الذي كان يحاول أن يستدر عطف الزوار على ضحايا الحرب العالمية الثانية من اليهود، عندما قلت له أن هذه الغرف الواسعة والنظيفة وأسرتها الخشبية ومدافئها )جمع مدفئة( التي لا زالت على حالها يمكن اعتبارها غرفا في فندق من خمس نجوم بالنسبة للسكنات التي كان يعيش فيها الشعب الجزائري خارج السجون الفرنسية أما الآلاف الذين كانوا في السجون فلا داعي لأن أحدثك عن حالهم. لم يتحدث التاريخ إطلاقا عن شعب دفع ما دفعه الشعب الجزائري من أجل استعادة سيادته، لقد سما الجزائريون بأخلاقهم وبشجاعتهم وباستعدادهم للتضحية بشكل لا يمكن تصوره اليوم. كلمات: الوطن، الحرية، الاستقلال، المجاهد، الشهيد، أم الشهيد، زوجة مجاهد، أرملة شهيد ... كلها كلمات كانت لها مدلولاتها وقدسيتها، لا أحد كان يستطيع أن يكون مجاهدا مزورا أو شهيدا مزورا أو إبن شهيد مزور. لا أحد كان يفعل ذلك لأن المجاهد كان عليه أن يجاهد فعلا ضد العدو المحتل وابن الشهيد كان مطالبا بمواصلة طريق الأب الشهيد. الجميع كان عليهم أن يضحوا وأن يدفعوا للوطن لا أن يأخذوا منه.. لم تكن توجد يومها جمعيات تغرف من المال العام وتقتسم المناصب والمغانم. السؤال الذي يحير البعض منا دون أن نجد له الجواب الشافي هو: أين ذهب هذا الشعب الذي أنجز معجزة القرن العشرين وحقق النصر الوحيد في المنطقة العربية منذ سقوط الأندلس؟ أين هم الجزائريون الذين انتصروا ببنادق الصيد على مليون عسكري فرنسي مدعمين بكل إمكانيات الحلف الأطلسي؟ أين هو المجاهد الذي جعل، بفضل تضحياته وقوة إيمانه بالنصر وأخلاقه العالية، كل الأمة العربية تتوحد كلمتها حوله فتدعمه ماديا وتسانده في المحافل الدولية؟ كيف أصبح الشاب الجزائري يفضل أن يأكله الحوت في البحر على البقاء في الجزائر؟ كيف تحول المسؤول الذي كان يجمع التبرعات وينقل أموال الثورة بالملايين من قرية أو مدينة لأخرى وأحيانا من أقصى الجزائر إلى أقصاها دون أن يمس فلسا )فرنكا( واحدا منها رغم الجوع والبرد، كيف تحول هذا المسؤول إلى مختلس لمبالغ تعد أحيانا بآلاف الملايير من أموال الدولة دون خوف؟ أسئلة كثيرة تطرح ولا أحد يملك الجواب الشافي. من جهتي، أعتقد أن الجواب يكمن في القيادة، فالثورة قادها رجال شجعان تميزوا بصفات الأنبياء فصدقهم الشعب وآمن بهم وسار على منوالهم.. هؤلاء القادة، استشهد معظمهم في السنوات الأخيرة من الثورة ومن نجا من الموت على يد قوات الاحتلال همش وأبعد أو غرر به غداة استعادة السيادة الوطنية.