لم تكن الحروب الصليبية سوى نزعة بظاهر ديني وخلفية سياسية، تُستغَّل فيها خلفية الدين فيُذعِن، فتقود باسمه حروبا عدوانية شرسة خارج حدودها، لتضع يدها ظلما وعدوانا مسيطرة على خيرات غير أراضيها، فاسترقاقِ أهلِها بطرق وأساليب همجية عرقية ترفضها الأديان السماوية التي تدعو مجتمعةً إلى مجتمعات عادلة تستهجن الفساد وعنف الحكّام وتدين أصحاب الامتيازات على حساب الفقر والعَوَز الانساني ، وتعمل رسالاتها بقوة على تلطيف الجو بين الناس والتمكين بالعطف البشري على البشر في الواقع الحيّ. ذلك تقريبا ما ذهبت إليه في كتابها الأخير ( حقول الدم) " كارين أرميسترونغ" البريطانية من أصل ايرلندي، المتخصّصة في علم الأديان المقارن، صاحبة المقولة الشهيرة " كلّ التقاليد العظيمة تقول تقريبا الشيء نفسَه بالرغم من الانفعالات السطحية"، إنّ الكاتبة الصحفية الشهيرة "كارين " التي جابهت البابا "دينيديكت" بردٍّ مُفحم بقولها العادل المنصف : "نحن لا نستطيع تحمُّل إبقاء هذا الإجحاف القديم ضدّ الإسلام"، تُرجِع في كتابها الأخير المذكور أعلاه ما يقع بين البشر من عنف جرّاء حروب آنية داخلية نازفة، وأخرى تُفرض من خارج حدود الأوطان والأقاليم، إلى ما قبل التاريخ مثل عنف الرعاة على المراعي وعلى مضارب الخيام، وعنف المزارعين على القطع الأرضية، ومن أجل الاستيلاء على النساء حسب الرغبة، ومدى تحصينهنّ من الغير. ترى الكاتبة كارين المتعمّقة في علم الأديان والروحانيات وبخاصّة الإسلام الذي تناولته بالبحث والتمحيص في كم من مقال وفي كم من كتاب، أنّ ما يحدث من عنف وهدرٍ للدماء وزهقٍ للأرواح يخاف تعاليم الأديان، ولا يمتُّ لها بصلة، وتحمِّلُ ذلك للسياسيين، ومدى تأثيرهم في ذلك من أجل الوصول إلى الحكم أو البقاء فيه، وذلك عبر إحاكة مناورات ومؤامرات يُستغلّ فيها الدين، حتّى صار في عهدنا الحالي آلية تجمع في بيادقها محاصيل التطرّف والكراهية التي تُنبِت أشواكا تُدمي، وتصنع سلاحا يفتِك، وتنشئ قوّاتٍ تدمّر، وتُبدي أرواحا شرّيرة، وتختلق سياسات ظالمة مُجحفة، تسلب وتنهب وتقتل دون وجه حقّ، بسبب خلط الدين بالسياسة بالقدر الذي يخدم السياسيين.
لكن الكاتبة المنصفة "كارين" في الأساس لا تعارض خلط الدين بالسياسة وفق ما تقتضيه الشرائع السماوية، وأهدافها الأصيلة من حيث أنّها تمكّن لتأسيس مجتمعات عادلة بعيدا عن وحشية الإنسان التي عاش عليها وبها قبل نزول الدساتير الربّانية، التي بسبب تحريف البعض منها وتعدّد المذاهب في البعض الآخر، عادت البشرية في عصرنا الحالي إلى المربّع الأوّل من تاريخ حياتها أي إلى البطش والبطش المضاد. الكاتبة النزيهة المتعالية عن المذهبية والعرقية والعنصرية والتمييز، الصائبة في ما تؤمن به وما تقوله، وهي تجمع بين الفكر الحرّ والقول النظيف، إنّ ما تقوله يتقاطع بل يتطابق مع ما يجري في البلاد العربية من ويلات الحرقة والموت والدمار، إذ أحيت السياسات النعرات القبلية، ليحتمي بها السياسيون من لهيب نار كانوا السبب في إضرامها ، فعاد النزاع البدائي إلى الواجهة بأسلحة العصر المتطوّرة الفتّاكة التي كلّما لم يجد لها صانعوها أشواطا وأصيبت بالكساد، وعملوا على البحث لإيجاد أسباب وأماكن لتسويقها ، يجدون ، ودون عناء، الأحضان العربية تتلقّى هذه الأسلحة الكاسدة للفتك بالذات العربية ، ذلك أنّه حينما تستنجد السلطة العربية بالقبيلة من القبيلة، وتحتمي بالمذهب من المذهب بتنشيط من القوة العظمى مثلما يقع في العراق وسوريا واليمن والسودان حاليا، حيث أنّ الحنين يؤدّي إلى ارتكاب الهمجية البائدة، وفضاعة أكل لحم الأخ نَيًّا ودفنه حيًّا. إنّه من المفارقات أن يتفّق الأمريكان والروس على مجابهة إيران النووية، ويتقاسمون الأدوار ويتوازعون المهام في مناصرة فصيل عربي على آخر، وقبيلة عربية على أخرى، ذلك لخصوبة التفرقة الإثنية في الوضع السائد الذي يمكن أن يُطلق وبعصبية على ما تقوم به الدول العظمى في هذا الشأن بين الإخوة الفرقاء المسلمين: الكيل بمكيالين والقسمة الظيزة، ولَعمري صدَقَتْ فيما تقول "كارين"..!؟