لم أملك نفسي، وأنا أتفرج على فيلم وثائقي حول سقوط جدار برلين في عام 1989، من أن أقول متعجبا : ألا ما أكثر الأسوار التي بناها العرب بأيديهم منذ عام 1961، أي العام الذي بني فيه جدار برلين! جدار برلين هذا كان جدارا مصطنعا، أما الجدران التي بناها العرب فما كان لها وجود من قبل اللهم إلا في عقول بعض الحكام الموتورين. جدار برلين بني بالإسمنت المسلح والحجارة الزرقاء، وفصل بين أبناء الشعب الألماني نزولا عند رغبة كل من الشيوعيين السوفيات والأمريكيين الرأسماليين، وظل قائما طيلة تسعة وعشرين عاما، ثم انقلبت الدنيا رأسا على عقب، وصار في مقبرة التاريخ الأوربي. وهكذا، عبر الألمان بوابة )براندربورج( الشهيرة عبورا رسميا، وشربوا الأنخاب فيما بينهم، وتلاقت العائلات بعد طول فراق. وهكذا أيضا، عادت ألمانيا إلى الحظيرة الغربية بعد أن تم ترويضها خلال الحرب العالمية الثانية، ثم خلال سنوات الحرب الباردة، وصارت اليوم في مقدمة الدول الغربية التي تدافع عن السياسة التي مرغت وجهها في التراب. أما نحن، فقد بذلنا الجهد تلو الجهد خلال نفس المدة، لكي نقيم أسوارا وهمية فيما بيننا، ولكي لا ينظر الواحد منا إلى الآخر حتى وإن كان مجال النظر هذا هو الساحة التي يتقاذف فيها اللاعبون الكرة. ألمانيا اليوم كادت تتحول في بحر السنوات القليلة الماضية إلى بلد متوسطي. ولعل الحرب التي اندلعت في أرض يوغوسلافيا السابقة مردها إلى أن بعض الدول الأوربية، وعلى رأسها فرنسا، خشيت أن تتحول ألمانيا إلى بلد متوسطي بالفعل، فعملت على إذكاء نار الحرب التي فتتت بلدان البلقان أكثر من ذي قبل. وبالفعل، لقد خشي الأوربيون أن يمتد نفوذ الألمان إلى كرواتيا بحكم أن هذا البلد ذو ثقافة ألمانية، وهو يطل على البحر الأبيض المتوسط. ومن المعلوم أن من تكلم لغة قوم يفوقونه قوة وثقافة وجد نفسه في سياق المغلوب على أمره. ولولا أن الحرب نشبت لتمكنت ألمانيا من امتلاك واجهتين، أولاهما طبيعية، وهي تطل على البلطيق، وثانيهما ثقافية، وهي تطل على البحر الأبيض المتوسط عن طريق كرواتيا. نحن لدينا واجهات طبيعية وتاريخية وقومية، لكننا في كل مرة نعمد إلى بناء أسوار عالية في تلك الواجهات بالذات. ندعي وصلا بهذا العصر، لكننا لا نريد أن نحتذي بمنجزاته الإيجابية في مضمار السياسة، ولا أن نعتبر بالدرس السياسي الألماني البليغ، ذلك الذي يتمثل في جدار برلين، وكيف عمد الشعب الألماني إلى إسقاطه على الرغم من اعتراض السوفيات من جهة وألاعيب الرأسمالية الأمريكية من جهة أخرى. أسوارنا منيعة عالية، لكن منعتها موجهة ضدنا جميعا، وليس في نية أحد منا أن يتناول الفأس، ويوجه أولى الضربات لها، ذلك لأننا نعيش في حالة من الوهم السياسي الذي يقال له أمة العرب الموحدة من المحيط إلى الخليج. فكم نحتاج من الوقت لكي نرى جزءا من أحلامنا يتحقق في أرض الواقع؟ الله أعلم!