تحل ذكرى وفاة الراحل ياسر عرفات في أجواء مواجهة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، وقد لا تختلف هذه الأجواء كثيرا عن تلك الظروف التي عاشها الراحل وتسببت في اغتياله على الأرجح، قبل إحدى عشرة سنة من الآن. يتحدث محمود عباس اليوم باسم السلطة الفلسطينية التي نشأت بعد تتويج مسار أوسلو باتفاق إعلان المبادئ سنة 1993، غير أنه من الإنصاف التذكير أن سلطة اليوم مختلفة تماما عن السلطة التي أدارها عرفات في أواخر حياته، ولا بد من القول أن محمود عباس كان على خلاف شديد مع الراحل عرفات بسبب نزوع الأخير إلى المواجهة مع الإسرائليين بعد أن اكتشف خداعهم وكذبهم، وبعد أن تأكد له يقينا أن التسوية كما تريدها إسرائيل لن تفضي إلا إلى شيء واحد هو تصفية القضية الوطنية الفلسطينية وهضم حقوق الشعب الفلسطيني. بدأ عرفات الاتصالات السرية مع إسرائيل مبكرا، وقد كان ذلك من الأسباب التي أدت إلى حدوث انشقاقات عميقة في الصف الفلسطيني، وذهب إلى أوسلو وأثار غضب كثير من الفلسطينيين ومن العرب الذين كانوا شعروا بطعنة في الظهر، واختار المفاوضات بعد أن خسر منظمة التحرير هامش المناورة الذي كانت تملكه، وبعد أن تم إخراجها، أو تحييدها، فيما تسمى دول الطوق، وقد اعتقد أن خيار المفاوضات هو الحل الوحيد. قضى عرفات أكثر من عشرة أعوام يفاوض الإسرائيليين وحلفاءهم الأمريكان، ويحاول أن يرضي العرب الموصوفين بالاعتدال، لكنه اقتنع في النهاية أن إسرائيل لا تفهم إلا لغة القوة، وأن السبيل الوحيد لانتزاع الحق الفلسطيني هو المقاومة الشعبية للمشروع الصهيوني، وقد انتهى الأمر به إلى خوض المعركة الأخيرة ضد إسرائيل والتي دفع فيها حياته. لقد أعلن محمود عباس ومعاونوه أكثر من مرة أنهم كانوا ضد خيار عرفات في عسكرة الانتفاضة ضد إسرائيل، وخلال العقد الأخير لم يحصلوا على شيء، صف فلسطيني ممزق، وحروب متواصلة على قطاع غزة، وحصار قاتل، وتنازلات مستمرة، وفي المقابل تنسيق أمني مع إسرائيل يكبل أيدي الفلسطينيين بشكل كامل.
نعم عرفات هو من أطلق أوسلو، واختار طريق التفاوض والتسوية، وهو الذي أسس السلطة الفلسطينية، لكنه هو أيضا من استنتج بأن لا حل مع إسرائيل غير المقاومة، وما خلص إليه مسار الرجل أولى بالتأمل مما اعتبره أخطاء في التقدير والتدبير.