مما يثير الغرابة هذه الأيام هو تلك التحاليل السياسية التي نسمعها هنا وهناك في مختلف الوسائط الإعلامية العربية التي يبدو أنها فوجئت لإقدام مصر على بناء جدار العار المسمّى الجدار الفولاذي على حدود غزة. مصدر المفاجأة لا يخص الدور المصري الوسيط في فيما تسميه النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين كما تدعي القاهرة بل المدى الذي وصل إليه هذا الدور تباعا ومرحلة بعد أخرى حتى صار شراكة » نضالية« حقيقية مع إسرائيل. منذ اتفاقية كامب ديفيد التي أخرجت مصر من العرب تحوّل الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع إسرائيلي فلسطيني، فبعدما الموقف الذي ظلت مصر تتمسك به وأعلنه السادات في خطابه الشهير أمام الكنيست والقاضي بالانسحاب المفروغ منه من الأراضي المحتلة عام 67 انتقلت مصر إلى دور الدركي الحقيقي المنفذ للسياسة الأمريكية في المحافظة ثم بعد أوسلو إلى دور المحافظة على أمن إسرائيل ولو بتسوية غير عادلة في المنطقة تسند السلطة في رام الله بكل قوة وتعاقب حملة مشروع المقاومة وحلفائهم وعلى رأسها سوريا وإيران. بسرعة مذهلة تقاطعت مصالح القاهرة مع تل أبيب وواشنطن في ملف إيران النووي، وصارت مصر تسوّق لما تسميه تهديد الأمن العربي من النووي الإيراني والدور التوسعي لطهران في العراق ولبنان ونفوذه في غزة. منذ الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006 والموقف المصري يتنكر تماما لميراث مصر ذاتها في المقاومة والكرامة، فلم تعد الناصرية إلاّ ذكرى سيئة، وفسح المجال لقُطرية ضيقة وسياسة ذرائعية تبريرية مقيتة تحاول جرّ العرب جميعهم إلى حتفهم السياسي والاستراتيجي خدمة للمصالح الأمريكية والصهيونية في المنطقة. امتدت السياسة الآثمة من خلال سلسلة مواقف خيانية تجهر بالسوء ولا تعبأ بقوى المعارضة لهذا الخط في الداخل والخارج، فاستغلت القاهرة تماما الحرب الجائرة على غزة في ديسمبر 2008 وتواطأت على المكشوف وغلّقت معبر رفح وساهمت في الحصار لسنوات وبحثت عن استعادة وهج أضاعته بفعل تذللها الذي بدأ بإعلان ليفني عن الحرب على أرضها، واستغلت الموقف أبشع استغلال من أجل اصطفاف إقليمي حولها بسب الجغرافيا لا غير بتعبير عزمي بشارة، ثم ناهضت قمة الدوحة واستباحت كل شيء مثلما هو الحال بالمساومات الحقيرة التي تتعرض لها حماس فيما يسمى الحوار الفلسطيني بالإمعان في الظلم من خلال الغلق المستمر لمعبر رفح، واستمرار الحصار ومراقبة الأنفاق وتدميرها ثم أخيرا طبعا الشروع في بناء الجدار الفولاذي.. بالتأكيد، ليس هناك عار أكبر من أن يموت المرء جبان إذا لم يكن من الموت بُدّ..ولكن عباس وسلطته لم يعد لها وجه منذ أن امتنع هذا الرجل عن حضور قمة الدوحة في جانفي 2009 حول العدوان على شعبه في غزة امتثالا لمبارك، ثم عندما فضيحة تقرير غولدستون التي أذهلت »كل مرضعة عما أرضعت« وأخيرا وليس آخرا دعمه لقرار مصر السيادي لبناء الجدار..! لا غرابة إذن، في الدور المصري التي يعتبر تطورا طبيعيا في سلسلة متوالية من السياسات التي تدعي البراغماتية وتبطن غنوعا يضرب مصلحة الأمة في الصميم.. لنستعد الآن لهذا الدور الجديد وهو الشراكة النضالية مع إسرائيل والآتي أعظم..! إذا لم يكن من الموت بدّ فمن العار أن تموت جبانا. أبو الطيب المتنبي