السياق العام للمواقف، والقرارات وتتابع المراحل التي يسير عليها صناع القرار في مصر، يؤشر إلى أن »علية القوم« هناك سيصلون إلى مرحلة حاسمة يضطرون خلالها إلى توجيه السلاح بشكل مباشر نحو قطاع غزة ويدخلون في حرب تقليدية واضحة المعالم يتقاتل فيها الأشقاء من المصريين والفلسطينيين. هذا الكلام، أو معناه بالأحرى، هو بعض ما تحدث به خبير استراتيجي عربي بعد عدة أشهر من العدوان الصهيوني الهمجي على قطاع غزة الذي انطلقت شرارته الأولى خلال الأيام الأخيرة من العام الماضي.. ذلك العدوان الذي أسال أنهارا غزيرة من الدماء في القطاع المحاصر، وأسال بعد ذلك كميات كبيرة من الحبر، وأثار جدلا لم ينته بعد عن الدور المصري في ما جرى للفلسطينيين وحدود مسؤولية »الشقيقة العربية الكبرى« عن قطاع غزة وكامل أرض فلسطين بجميع أحزابها وفصائلها وتعقيداتها ومرجعياتها قبل قيام سلطة »أوسلو« وبعدها. المنحنى البياني للمواقف والقرارات المصرية ظل في تصاعد سلبي منذ فوز حركة المقاومة الإسلامية حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني بأغلبية مريحة عام 2006.. ويبدو أن إعلان ذلك الفوز المفاجئ أطلق صفارات الإنذار في أروقة صناعة القرار المصري، وشكّل بداية مرحلة جديدة يتلخص شعارها الخفي في وضع جميع أنواع وألوان العصيّ في دواليب الحراك الذي تقوم به حركة حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية الرافضة لنتائج جميع التفاهمات والمعاهدات المبرمة مع دولة الكيان الصهيوني. منذ ذلك الحين جربت مصر الرسمية كل الوسائل لحشر حركة حماس في زاوية محددة وإيقاف تمددها في جميع الاتجاهات، بل وإعادتها إلى مواقع سابقة سواء ما تعلق منها بشعبيتها أو قدراتها المالية والإدارية والسياسية والعسكرية، ومنذ ذلك الحين أيضا ظلت مصر الرسمية تتجرع كؤوس الفشل وهي تشاهد بأم عينيها الصمود الذي أبدته حماس، وبقية فصائل المقاومة، وهو يتحول إلى منعطف حقيقي في تاريخ فلسطين ومرحلة جديدة عنوانها الصعود من جديد أو الثبات في المواقع على الأقل، إلى أن تتغير موازين القوى في المنطقة والعالم. دعمت مصر الرسمية تيار السلطة الوطنية الفلسطينية على حساب حركة حماس، وساهمت، أو تغاضت على الأقل، في مخططات السيطرة على القطاع والقضاء على أي قوة غير قوة السلطة، وحاصرت قطاع غزة عبر معبر رفح ودافعت عن خطيئتها بحجج ودعاوى واهية، ونزلت »كبيرة الكبائر« على الرؤوس عندما ظهرت مصر الرسمية في موقف المتستر على العدوان الصهيوني على غزة، وذلك حين كانت تستقبل قادة العدو قبل يومين فقط من بدء الجريمة، بل وتطمئن الجانب الفلسطيني في غزة أن لا شيء في الأفق. وبعد أن توقف العدوان وترك ذلك الكمّ الهائل من المآسي، توقع الجميع، وحتى أشد الناس تشاؤما، أن تتحلى مصر الرسمية بالشجاعة ولو لبعض الوقت، وتفسح المجال لأهل القطاع ليتنفسوا الصعداء في أرض الله الواسعة، ليخرجوا ويدخلوا ويعالجوا جرحاهم ويستقبلوا وفود العزاء والتأييد من شتى أنحاء العالم.. لكن ما حدث كان العكس تماما حين أعلنت مصر الرسمية أنها تلتزم بقرارات ما يسمى الشرعية الدولية وأنها في انتظار حلول كاملة لمسألة المعابر، وأن معبر رفح كبقية معابر القطاع الأخرى التي يتحكم فيها الجانب الإسرائيلي. شددت مصر إغلاق معبر رفح وحاربت حركة التهريب عبر الأنفاق بين القطاع وسيناء، وماطلت كثيرا في السماح بمرور الوفود والمساعدات الدولية، ومع ذلك صمدت إرادة الفلسطينيين في قطاع غزة، ولم ينتفضوا ضد حماس ويرموا بها في البحر ويستقبلوا مجموعات محمود عباس بالورود والزغاريد.. شدوا على أيدي بعضهم وتعاهدوا على الصبر وهم ينتظرون ما يخرج من تلك الأنفاق التي تحولت إلى شريان وحيد يمد الفلسطينيين ببعض المقومات الأساسية للحياة.. أنفاق عجزت طائرات العدو الصهيوني عن هدمها بقنابلها المجنونة. ورغم كل شيء ظل العالم يراقب الحكومة الفلسطينية في غزة وهي تدير دفة الأمور بسلاسة وتواجه متطلبات الحياة اليومية بما تيسّر لها من وسائل محدودة.. وهنا نفذ صبر مصر الرسمية ووجدت نفسها، على حد كلام الخبير الاستراتيجي العربي، في مرحلة المواجهة المباشرة مع فصائل الرفض الفلسطينية، وقالت لنفسها إنها الحرب إذن.. نعم وصلت إلى تلك المرحلة على ما يبدو، لكنها عدلت عن الحرب المباشرة إلى ما يماثلها في المضمون ويخالفها في الشكل.. لجأت إلى فكرة بناء جدار فولاذي على طول الحدود مع قطاع غزة المحاصر.. جدار سميك يصل إلى عمق ثلاثين مترا في باطن الأرض ليقف سدا منيعا أمام تجارة الأنفاق بين الأشقاء المصريين والفلسطينيين، ويصنع أكبر سجن في تاريخ البشرية. يمكن أن نتفهم الخلافات الفكرية والمرجعية بين حركة المقاومة الإسلامية حماس ومصر الرسمية، ويمكن أن تؤدي تلك الخلافات إلى بعض التوتر بين الطرفين، لكن التفكير الإستراتيجي يلجم أصحاب العقول المستنيرة عن تلك النزوات السياسية التي تتحرك خارج سياق المصلحة العامة للأمة. لقد أدرك الكثيرون حقيقة الظروف التي يمرّ بها العالم وطبيعة التوازنات السياسية الدولية واستحالة عودة سنوات الشعارات الكبيرة والحرب المباشرة مع العدو الصهيوني؛ لكنهم أدركوا أيضا أن السياسة هي فن الممكن، فدعموا تلك الطليعة التي ظلت صامدة على الأرض، أما »أم الدنيا« الرسمية فظلت تلعق الخلافات الفكرية والسياسية القديمة، ولسان حالها يقول: نحن ضد حماس ظالمة أو مظلومة، فقط لأنها خرجت يوما ما من رحم حركة الإخوان المسلمين.. حتى لو تغيرت، وحتى لو صارت الخط الأول لقوى الممانعة والرفض العربية، وحتى بعد أن اصطبغت ببراغماتية سياسية عالية المستوى.