مع أنها لم تتبناها رسميا، إلا أن نظرية "الفوضى الخلاقة" هي المتحكمة الآن في توجهات السياسة الخارجية لإدارة أوباما، وبالتحديد فيما يخص التعامل مع قضايا العالم العربي.. قبل أربعة أشهر، كتبت في هذا الركن: "بعد العراق، اليمن، السودان. إلى أين"؟ ولا أزعم أنني أقرأ الفنجان أو أعلم الغيب أو أضرب الأقداح كما كان كاهن الكعبة يفعل لقريش، فقط كانت هناك مؤشرات وكان هناك احتقان، وكانت هناك أزمات، تتلوها أخرى، وكان التعامل معها محليا يجري بأسلوب، إما أنت أو أنا.. فتكون المحصلة هذا النفق المجهول الذي يهدد بزوال كيانات تتآكل أساسا بفعل عوامل داخلية، ثم تأتي بعد ذلك العوامل الخارجية لتزيد من الإحتقان ومن التشدد.. لا أحد يمكن أن يتنبأ بالتحديد إلى أين؟.. لكن لا أحد يشك أن اشتعال هذه البؤر في البلدان الثلاثة لديها عوامل مشتركة.. أو لنقل مسببات مشتركة، بعضها محلية نتيجة طبيعة الأنظمة ونتيجة تركيبتها الإجتماعية التي تتراوح بين العرقية أحيانا، وبين المذهبية والطائفية أحيانا أخرى وبين التشدد السياسي لسلط مركزية لا تتحكم أبدا في التحزم وفي الضواحي التي لديها نظمها وقوانينها وأعرافها وتقاليدها.. وفوق هذا وذاك، لديها هموم ومشاغل لا تجد بالضرورة التعبير عنها في ممارسات السلطة المركزية ولا في سياساتها... أن تتمركز في المنطقة الخضراء، كما تسيطر على صنعاء، أو تتحكم في الخرطوم، فذلك لا يعني بالضرورة بسط السلطة بقدر ما يعني الإنعزال والتقوقع في حيز والأحداث تجري معاكسة في بقية المحيط الآخر، وتجري متصاعدة.. وعوض التعامل معها بنوع من التبصر وسعة الأفق وأيضا بالتفهم لأسبابها ودوافعها، فإن ردود الفعل كثيرا ما تكون متشنجة من خلال ذلك التفسير الساذج والسطحي والجاهز دوما: "تحدي السلطة وهيبة الدولة، وأعداء الوطن وعملاء قوى خارجية" وهي العبارات التي تشكل في الواقع جوهر الخطاب السياسي العربي برمته حين يعجز عن التعامل مع الأزمات. لست متحاملا على هذه الدول ولا على قادتها ولا على شعوبها، بل أتعاطف معها، لكن أود القول أن تسيير شؤون الأمم وقيادة الدول لا يترك مجالا للنيات مهما كانت حسنة. ضمن هذا السياق، سياق العجز عن حل قضايا داخلية ومشاكل طبيعية متوقع حدوثها.. تأتي العوامل الخارجية التي تستند إلى أجندات هي أبعد ما يكون عن اهتماماتنا نحن أهل الشأن أولا.. ومن هنا تفتح النافذة لتسرب الفوضى الخلاقة حتى وإن لم تكن سياسة رسمية. كما العراق، بعد الغزو، وكما أفغانستان بعد تفجيرات سبتمبر .2001 تتسلل إدارة أوباما للدخول على الخط في اليمن تحت ذريعة محاربة القاعدة وحقيقة خلايا القاعدة موجودة في اليمن، كما هي موجودة في السعودية وكما الأردن وكما منطقة الساحل وفي الفيافي الجرداء الموحشة في الصومال الذي تحول إلى أرض القتل وأرض الخراب.. لكن ألا يعني هذا التوجه الأمريكي إعطاء حقنة أوكسيجين متجدد لكل "الإرهابيين" الذين سيبرزون مشروعاتهم أن هدفهم محاربة الوجود الأجنبي والتدخل الأمريكي. البلدان الثلاثة وربما هذه بعض أبعاد هذا التوجه الأمريكي والغربي عموما، تمتلك مقومات استراتيجية هامة من حيث الموقع الجغرافي ومن حيث الثروات وإذا كان هذا العامل قد تأكد من خلال غزو العراق.. فإنه وراء كل هذا التكالب ضد السودان، هذا البلد العربي- الافريقي الشاسع الذي يتوفر على ثروات زراعية ونفطية ومعدنية جلها لم يستغل وإن كان معروفا لدى الدوائر الغربية التي تسعى لوضع اليد عليها من خلال الدفع لتمزيقه جنوبا وغربا في دارفور - كما أن اليمن تحتل موقعا متميزا في منطقة البحر الأحمر والمحيط الهندي وباب المندب الذي يشكل خليج عدن مفتاحه لجنوب قناة السويس.. يضربوننا عن التبن، فننسى الشعير.. أما القمح فليس هناك مجالا للتفكير فيه ذلكم هو حالنا حال العرب جميعا الذين فقدوا المعنى الجوهري للوجود وهو أن تكون فاعلا مؤثرا وليس مجرد كائن حسي بليد الأحاسيس هم يتمددون ونحن ننحسر وسواء صدقت نظرية الفيزياء الفلكية حول الكون، هل يتمطط أم يتقلص ففي كل الحالات العرب يتراجعون والآخرون يحاصرونهم. على عتبة بداية العشرية الثانية من الألفية الثالثة ينحسر التأثير العربي ليصبح واقعهم مجرد استقبال تداعيات ما يقرره الآخرون.. وهكذا فإن القضية الفلسطينية وهي المحرك للوجدان العربي في جوهره الشعبي تراجع لتترك المجال لبروز تمرد الحوثيين في اليمن أو ظهور الحراك الجنوبي فيه كرد فعل على نظام أبخس جزء من الوطن حقه في النماء والمشاركة في السلطة. أو الصراع بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في السودان ودفعهما عن قصد أو عن سوء تقدير ليس فقط لانفصال الجنوب، وهو أمر متوقع إنما عن تمزق كل السودان وضياع دافور يضاف لذلك تقنين الطائفية والعرقية في العراق تمهيدا للحل المتوقع "ديمقراطيا" حسب الوصفة الأمريكية تقسيمه إلى ثلاث كيانات إن لم يتم لحد الآن جغرافيا فهو في القلوب والتوجهات حاصل.. في ظل هذه الغباوة وهذا العماء السياسي تعيش اسرائيل عصرها الذهبي حين تبلغ تجنيد طرف عربي لتشييد جدار فولاذي يزيد من محاصرة الفلسطينيين ويضاعف معاناتهم.. وأتساءل أين أمن مصر حين تغلق آخر منفذ يتنفس منه الفلسطينيون المحاصرون في غزة بالتقسيط وكان لا يؤمن لهم من الحياة سوى ابقائهم تحت وطأة المزيد من المعاناة والهوان.. يتهكم المكسيكيون فيما بينهم حين يسألهم أجنبي عن حالهم.. كما ترى بعيدون عن الله قريبون عن أمريكا وقد يصدق المثل جغرافيا لكن ماذا عنا نحن العرب البعيدين عن أمريكا والمفروض أن نكون قريبين من الله الذي نهرب منه لنرتمي في أحضان أمريكا أليست هذه هي السفاهة بعينها!؟ قد تكون "الفوضى الخلاقة" منتوج مخابر لدوائر تترصد توجهات على الصعيد العالمي، وتحاول اخضاعها لمنطقها في السيطرة والهيمنة - وللأسف فإن العالم العربي برمته هو المادة الخام لهذه النظرية، كما أنه ميدانها ليس فقط للتجربة وإنما للتفريخ والانتشار.. ذلكم هو الحال - وقد يكون إن استمر تغييب الوعي هو المآل!