أصبح في إمكان الرئيس بوش أن يقول في خطابه الموجه للأمة صباح يوم 9 أغسطس، أي بعد أسبوع واحد من الغزو العراقي، بأن : ))قواتنا ذهبت إلى المملكة العربية السعودية بناء على طلب سعودي، وأنها سوف تغادر المملكة فور أن تطلب منها الحكومة السعودية ذلك(( وتتجه الأنظار إلى القاهرة حيث بدأ الإعداد لعقد قمة عربية غير عادية. ويُعطي هيكل صورة مُعبّرة عمّا شهدته العاصمة المصرية صباح ذلك اليوم فيقول أن : ))أرتال السيارات الجديدة والفخمة، وكلها سوداء، راحت تعطي العاصمة المزدحمة الكبيرة مظهرا من الأهمية تُضاعِف من تأثيره أصواتُ صفارات الحراسة (..) وكانت جماهير الشعب المصري تتابع ما حولها بمزيج يختلط فيه الضيق بالكبرياء (وكان ) إحساس المصريين بانتهاء عزلتهم عن العالم العربي، وبأن الأمة العربية جاءت قاصدة إلى بلادهم في ساعة أزمة عنيفة، كان يعطيهم إحساسا غامضا بأن موقع الزعامة عائد إلى عاصمتهم بعد غياب طال(( وربما كان هذا هو سبب عقد القمة في القاهرة وليس في شرم الشيخ، التي لا يحس عامة الشعب بشكل مباشر بما يحدث فيها، وكأنه يجري في بلد آخر. لكن شعورا غامضا بدأ يفرض وجوده على كل الحركات والتحركات داخل أجواء المؤتمر، خلاصته أن الوضعية يسيطر عليه تسرع من الصعب عقلانيا تفهمه أو تبريره، وهو تسرع سيتجسد بصورة واضحة في أسلوب عمل القمة واختتام أعمالها، والذي يمكن أن تغطيه كلمة (الكلفتة) خصوصا وقد طلب الرئيس التونسي تأجيلها يومين أو ثلاثة ليمكن الإعداد الجيد لها على مستوى وزراء الخارجية، ولم تتم الاستجابة لطلبه، وهكذا كان منسجما مع نفسه ومع منطق الدولة الذي تتميّز به تونس فلم يحضر أساسا، بينما شارك الرئيس الشاذلي بن جديد، ربما من منطلق محاولة إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، أما ملك المغرب فقد بدا متحفظا حيث اكتفى بإرسال رئيس وزرائه. وكان من دلالات التسرع عدم عقد اجتماع تمهيدي لوزراء الخارجية طبقا للتقاليد المعمول بها قبل عقد القمم، ويردّ الوفد المصري المضيف على من طرح عليه التساؤل، وبالطبع طبقا للتعليمات التي تلقاها، بأن الموقف مُعقد جدا وبلا سابقة، وأن الأزمة بمجملها سوف تعرض على الملوك والرؤساء ليروا فيها رأيهم. وهكذا حُرم الرؤساء من مساهمة المختصين في الشؤون الديبلوماسية، ويتضح أن المطلوب منهم هو التصرف كبرلمانات »بني وي وي« (oui oui) الشهيرة. ويسلم وزير خارجية السعودية للأمين العام للجامعة ورقة تضم مشروع قرار رجاه أن يطبعه بسرعة »دائما بسرعة« ليُوزع على الرؤساء والملوك قبل دخول القاعة، وهكذا أرسل الشاذلي القليبي بالنص إلى جهاز الطبع بدون أن يقرأه، ضمانا للسرعة في التنفيذ، وإن كان راجع بعض السطور بنصيحة من مستشاره، وفيما بعد عبر أحد مستشاري الملك حسين عن مشاعره حول ما جاء في تلك الورقة بأن النص هو »ترجمة« إلى اللغة العربية وليس كتابة أصلية بها (ص 429) ويؤكد ذلك بأن النص يتحدث عن عودة القوات العراقية إلى مواقعها يوم 1 أغسطس، في حين أن الغزو حدث يوم 2 أغسطس، الذي كان فعلا يوم 1 أغسطس في واشنطون نظرا لاختلاف التوقيت، وهكذا يتضح أين كتب النص الأول للقرار الذي سيتخذه الرؤساء العرب، ومن الذي أعطاه لمن، ويمكن أن نتخيل من أطلع عليه قبل توزيعه ومن حُرم من هذا الشرف. ويقول الرئيس الشاذلي خلال الجلسة الأولى للقمة، مشيرا إلى استقدام القوات العسكرية الأمريكية : ))إننا مطالبون بأن نجد وسيلة عربية لحل الأزمة وإلا فإننا نكون قد ضيعنا كفاح أجيال قضت عمرها في محاربة الاستعمار، ولا يعقل أن نجد بيننا من يمهد الطريق لعودته لأراضينا بقواته العسكرية(( ويتدخل الرئيس عمر البشير لكي يتناول الأمر في نفس اتجاه الشاذلي، لكن الملك فهد يرد على الرئيس السوداني بغلظة قائلا بأنه : ))لا يعرف ما يقوله وكلامه مليء بالخلط(( وكان واضحا أنه تفادي توجيه الرد للرئيس الجزائري، الذي ما كان ليكظم غيظه كما فعل البشير، ولكنه كان يتابع بقلق كبير المناورات التي تجري في القاعة وتعطي الشعور بأنها تنفيذ لقرارات اتخذت خارج القاعة. ويتدخل الرئيس مبارك قائلا: ))لدينا مشروع وزعناه في الصباح وسوف أطرحه الآن للتصويت، وترتفع أصوات مطالبة الرئيس بتأجيل التصويت لأن المناقشة لم تستوفِ حقها، ويرد مبارك قائلا بأنه لا يسمع مناقشة جادة وإنما يسمع مهاترات، ثم يطلب من الموافقين على النص الموجود أمام المؤتمرين رفع أيديهم ويقول بسرعة : حداشر (11) أغلبية موافقة...ترفع الجلسة، وهكذا يتم التعامل مع أخطر قرار مر على مجلس الجامعة العربية منذ إنشائها. وعلى الفور يقوم الرئيس من مقعده متوجها إلى باب الخروج بينما يرتفع صوت عرفات قائلا أن التصويت غير دستوري، ويرد السيد مفيد شهاب، المستشار القانوني للوفد المصري، قائلا : القرار دستوري وهذا اختصاصي وأنا أعرف ما أقول، وكان موقف شهاب لا يختلف عن موقفه بعد ذلك بنحو عشرين عاما إثر حدوث التوتر بين مصر والجزائر على خلفية الاعتداء المصري على حافلة اللاعبين الجزائريين، وهو موقف تبدل بين عشية وضحاها، لأن الأوامر صدرت بذلك. وكان واضحا أن الرئيس المصري يتصرف تحت ضغوط كانت أكثر من مكشوفة. ويصيح القذافي موجها كلامه للرئيس مبارك: إنك لم تكن ديموقراطيا في إدارتك للجلسة، ويرد الرئيس المصري: لا أسمح لك بأن تقول هذا. وتكون نتيجة المهزلة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا مواقف متضاربة، فالعراق وليبيا رفضتا القرار، والسودان وموريطانيا وفلسطين تحفظت عليه، والجزائر واليمن امتنعتا عن التصويت، وكذلك الأردن. وإذا قمنا بتحليل سياسي لتلك القمة، والتي قيل أنها وافقت على الاستعانة بالقوات الأمريكية، فإننا نجد أن أربعة أصوات فقط هي التي وافقت على القرار، مصر وسوريا، ولبنان بالطبع، ثم دول الخليج كلها، التي جسدت صوتا واحدا عبّر عن إرادة دول مجلس التعاون، وكان من لم يصوتوا عليه، امتناعا أو تحفظا ثمانية، بضم تونس الغائبة. وهكذا بدا في تلك اللحظات أن الولاياتالمتحدة هي المدير الوحيد للأزمة والممسك بزمامها والموزع للأدوار فيها (هيكل ص 437) والإطلالة على الواقع آنذاك هي التي جعلت البعض يُعّير صدام بالعجز عن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المُناسب، والذي كان، في رأيهم، دخول السعودية عسكريا والسيطرة على المواقع الحيوية فيها قبل أن يُستكمل الاستعداد الأمريكي. فقد كانت الاستطلاعات تشير إلى وجود 800 دبابة عراقية ت - 72 حول البصرة، ولم يكن بينها وبين حقول نفط السعودية أكثر من ألف جندي من الحرس الوطني السعودي، ولم يُعرف ما إذا كان الرئيس العراقي احترم تعهده أو خاف من عواقب عمله. ويلحّ حسين على زيارة واشنطون في محاولة لتفادي الحرب، ويلتقي بوش الذي يتلقى خلال الاجتماع مكالمة هاتفية يقول عنها للملك أنها مكالمة : )) من أحد زملائك، يحثني على سرعة العمل بالقوة قبل أن تؤثر الدعاية العراقية على الشارع العربي(( ويتوجه الملك إلى لندن حيث يواجه بقلة أدب مارغريت تاتشر، ويتجه بعد ذلك إلى باريس حيث يجد فرانسوا متران أهدأ من السابقين، ويقول للملك أن السبيل الوحيد لإحراجهم هو سرعة الانسحاب العراقي. لكن الأمور كانت قد خرجت تقريبا من السيطرة العربية الرافضة للمنطق الأمريكي، ولم يكن القرار المصري السعودي هو وحده المؤثر على الأحداث بل أضيف له الموقف السوري بعد مكالمة الملك فهد مع الرئيس الأسد، ولم تكن موسكو مستعدة لأي حركة، بل إن وزير الخارجية السوفيتي شيفرنادزه، الجيورجي الذي دفع ثمن انبطاحه فيما بعد، كان يتكلم بنفس لهجة جيمس بيكر. غير أن المغرب العربي لم يتوقف عن المحاولة، وهكذا يلتقي الرئيس الشاذلي بن جديد في الرباط مع ملكي الأردن والمغرب، ويتخذ الثلاثة قرارا بأنه لا بد من محاولة أخرى، لكن الطرف السعودي الضاغط لمصلحة واشنطون كان في قمة فورانه، ويقول الأمير بندر بن سلطان لوفد من المؤتمر اليهودي بأنه نصح الإدارة الأمريكية بأن تستعمل حق الفيتو ضد أي قرار يدين إسرائيل بعد اعتدائها على المصلين في المسجد الأقصى يوم 9 أكتوبر 1990، ونتج عن ذلك هياج في الشارع العربي بدأ يقلق واشنطون لاحتمال استثماره من قبل العراق، وكان رأي بندر أن إدانة إسرائيل ستعتبر في جزء منها انتصارا لصدام حسين. والواقع أن بوش كان في تلك الأيام مهتما بدراسة نفسية الرئيس العراقي، وحاول أن يُركز خلال استقباله للمبعوث السوفيتي يفجيني بريماكوف على أسئلة تكشف عن معالم شخصية صدام، ثم راح يطرح نفس الأسئلة على عدد من الأمريكيين من ذوي الأصل العربي، أشاروا عليه باستعمال اسم »صدام« في خطبه بلهجة يبدو فيها الاستخفاف، وأن يقرن أي مبادرة علاقات عامة يقوم بها بعبارات تستفز كرامة الرئيس العراقي من أمثال: إنني أريد أن أعطيه الفرصة لإنقاذ ماء وجهه، أو لينفذ بجلده. وكان لجوء بوش إلى هذا الأسلوب ملحوظا في المستوى الأمريكي، حتى أن السناتور لي هاملتون قال له : إننا نلاحظ أنك تجعلها في كثير من الأوقات معركة شتائم وإهانات شخصية. وهنا نفهم قوة إسرائيل بمهاجريها في الغرب وفي الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص، مقابل هزال العرب ومهاجريهم هناك، لأن نجاح بوش في استفزاز صدام كان على ضوء الصورة التي أعطاها له عرب أمريكا هناك، متكاملين مع عرب أمريكا هنا.