قد يكون الكلام الصريح الذي تحدث به الأمين العام عبد العزيز بلخادم قد أثار بعض التساؤلات، وبعيدا عمن كان المقصود بتلك الانتقادات، يجب وضع ذلك في سياق التوجهات الجديدة التي تقتضي ألا يكون النضال تسابقا على تقسيم الكعكة واحتلال موقع يدر الريع، ولكنه بالأساس وحصرا، يعني الإيمان بالأهداف وبالوسائل الموصلة إليها وبالاستعداد للتضحية في سبيل ذلك. ما قاله الأمين العام رسالة قوية ينبغي وضعها في سياقها الطبيعي، إذ لم يعد مقبولا بعد أن بلغت سياسة المصالحة الداخلية مداها، التمادي في الممارسات التي تسيء للحزب ولا تخدم أهدافه، ولعله قد حان الوقت الذي يجب أن ينتظم فيه الجميع في صف المصلحة العليا لحزب جبهة التحرير الوطني. غضبة بلخادم كانت في اتجاه ممارسات وسلوكات وذهنيات حان الأوان لكي تزول نهائيا، ويخطئ من يعتقد أن تلك الغضبة كانت تستهدف هذا القيادي أو ذاك، ويكفي هنا أن نشير إلى رسائل الأمين العام التي وجهها إلى أعضاء أمانة الهيئة التنفيذية، والتي تؤسس في مضامينها ودلالتها إلى سلوك حضاري، إذ في رسائله إلى كل واحد منهم عبر عن اعتذاره إن لم يواصلوا المسيرة معا، مؤكدا لهم بأنهم » باقون بيننا لكل ما تركوا من روح عالية في النضال والوطنية والتشبع بروح الوفاء ونكران الذات«. ففي رسالة تنبض بالتقدير، كتب عبد العزيز بلخادم إلى عبد الكريم عبادة يقول: » إنها لحظة من لحظات التاريخ التي تصعب فيها الكلمات من أن تعبر عن ما يمكن أن توصف به مواقف الرجال في المحن. وأنتم من أولئك الرجال الذين ستبقون للحزب معينا لا ينضب، وللأجيال قدوة في النضال الحزبي الذي تشبعتم به على مدى عقود وأنتم تتدرجون سلم المسؤوليات وتتحملون أعباء النضال بمسؤولية واقتدار«. وواصل يقول في معرض إشادته بالمناضل عبد الكريم عبادة: » لقد كنتم سندا في الصعاب، وناصحا عندما يصعب الإختيار، وحاسما عند الفصل في المواقف والمبادئ، ومقتدرا عندما تواجهنا التحديات، وإني سوف أبقى شاهدا على ما قدمتموه لحزب جبهة التحرير الوطني من عمل سوف يبقى بدوره شاهدا لكم عند الأجيال، إذ أنكم أثبتم في جميع المسؤوليات الحساسة التي تحملتموها قدرة على أداء المهمة بروح عالية من التفاني والوفاء لحزب جبهة التحرير الوطني، كما أثبتم بأنكم كنتم وستبقون من الرجال الذين تُعَرِّفُ بهم مبادئهم التي رسخت لدى كل المناضلين والقياديين والإطارات أسمى الصفات التي لن تكون غريبة عن مجاهد كان مبدأه الأساسي التضحية من أجل الوطن«. وبنفس التقدير والعرفان كانت رسالة الأمين العام إلى صالح قوجيل، إذ خاطبه بما يستحق من معاني الإكبار لما قام به من مبادرات وما بذله من جهود من أجل الارتقاء بحزب جبهة التحرير الوطني، قائلا: » إن تضحياتكم في سبيل الجزائر وجهادكم من أجل حريتها هو أكبر وسام يبقى على مر التاريخ والأجيال يتوج هامتكم ونضالكم الذي تواصل بكل تفان وإخلاص، كما يبقى نبراسا تهتدي به الأجيال وهي تصنع المستقبل الواعد للجزائر«. » لقد كنتم أفضل رفيق على درب النضال، وأصدق مسؤول لم يبخل بالنصيحة والرأي في أصعب الظروف وأحرجها في مسيرة ستبقى رمزا للوفاء الذي كان ولا يزال سمة المجاهدين الصادقين وإن العمل الكبير الذي قمتم به من أجل وحدة الحزب ودعم قواه النضالية ستبقى أكبر من أية مسؤولية وأسمى من أي منصب لأنكم ستبقون على الدوام معيناً يغترف منه الحزب في كل الظروف ومرجعا من مراجعه التي لن تبخل عليه مرة أخرى«. وفي رسالته إلى السعيد بوحجة، خاطب عبد العزيز بلخادم ضمير المجاهد الذي كان حاضرا طوال مسيرته النضالية في صفوف حزب جبهة التحرير الوطني، قائلا: » لقد سجلتم في الفترة التي تحملنا فيها معا مسؤولية قيادة حزب جبهة التحرير الوطني في أصعب مرحلة من مراحل تاريخه روحا عالية في التعاطي مع الإعلام الداخلي والخارجي وعملتم بكل إخلاص وتفان لإعلاء كلمة الحزب في المنابر الإعلامية على اختلاف توجهاتها«. ومن منطلق الإنصاف، يقول عبد العزيز بلخادم: » إن السنوات الخمس التي قضيناها في مسؤولية مشتركة ستبقى شاهدا على ما بذلتم من جهد وما قدمتم من مبادرات دفعت بحزب جبهة التحرير الوطني ومناضليه إلى المزيد من الالتفاف حول الأهداف السامية والمبادئ الثابتة لحزبنا«. » إنني لعلى يقين- يواصل بلخادم- من أنكم تقدرون متطلبات المرحلة وفي ذلك ليس استغناء بقدر ما هو تأكيد للروح التي عملنا جميعا على ترسيخها في حزبنا في التعاطي الديمقراطي وفسح المجال لكل الطاقات لتأخذ دورها في حمل الرسالة التي هي في حقيقة الأمر أمانة من الشهداء للمجاهدين ومن المجاهدين إلى الأجيال المتوالية على مر التاريخ بالنصيحة والتوجيه«. وكذلك لم تكن رسالة عبد العزيز بلخادم إلى عمار سعيداني رسالة شكر فقط بل كانت » رسالة اعتراف لجهود مناضل لم يبخل على حزب جبهة التحرير الوطني بالموقف والرأي والمشاركة في تحقيق الأهداف الكبرى لحزب قدره أن يتولى القيادة كما تولى تحرير الوطن«. وأنتم من الرجال الذين كان ديدنهم ترسيخ الديمقراطية والعمل على أن تكون قاعدة التعامل في الممارسة النضالية عبر مختلف هياكل الحزب، وإني إذ أشيد بدوركم الذي كان فاعلا ونحن نتحمل مسؤولية مشتركة في هذه السنوات الخمس الماضية فإني أقدر كل الظروف التي أحاطت بكم، ومازلت أعتبركم من جنود حزب جبهة التحرير الوطني وقياداته التي لن تبخل عن الرأي والنصيحة والمشاركة كلما دعت الحاجة إلى ذلك». إذن، ما قاله الأمين العام لم يبلعه البعض، لا لشيء إلا لأنهم لم يألفوه ولم يتعودوا عليه، لذلك كانت الصراحة مفاجأة للذين ألفوا فهم النضال في حزب جبهة التحرير الوطني على أنه مجرد تموقع في هياكله وهيئاته القيادية وتأهب للانقضاض على المراتب المتقدمة في القوائم الانتخابية حين يحل الموعد. إن الخرجة الجديدة للأمين العام هي رسالة واضحة على إرادة قوية في ضبط أمور الحزب بما يتوافق والأهداف التي سطرها المؤتمر التاسع الذي سفه أوهام وأحلام كل الذين راهنوا على الفشل، وأكد بالصورة والصوت أن الأفلان، كان وما يزال وسيظل، الصانع الأول للحدث السياسي،اعتمادا على برنامجه ورجاله ونسائه وهويته السياسية وشرعيته الشعبية. » الكبار لا تهزهم الصغائر.. «