لا تزال سياسة ملأ الفراغ إحدى سمات الإستراتيجية الأمريكية وأهداف سياسة الإدارات الأمريكية المتعاقبة على اختلاف مشاربها، رغم تبدل المعطيات وتغير الذرائع. وتكاد تكون غدارة الرئيس دبليو بوش قد وجدث لها موقع قدم في مختلف أركان المعمورة تراقب به كل صغيرة وكبيرة، باستثناء إفريقيا وخاصة في ركنها الأكثر حيوية وهو منطقة الشمال والساحل، الذي أعدت له واشنطن متكأ عسكريا على غرار القواعد الكبرى المنتشرة في العالم وكان آخرها وأهمها قاعدة السيلية بقطر لمراقبة منطقة الشرق الوسط، وإخضاعها للهيمنة العسكرية الأمريكية. الإدارة الأمريكية لحد الآن على الأقل لم تتمكن من إيجاد مأوى للقيادة العسكرية التي حبت بها إفريقيا ولم تتمكن من إقناع أي دولة من الدول التي تحبذها أن تكون مقرا للأفريكوم بجدوى وأهمية ذلك وفائدته على المنطقة والقارة رغم كل الإغراءات المقدمة، مما دفع بها إلى ان تتخذ من شتوتغارت الألمانية مقرا مؤقتا على أمل أن تتمكن من إنضاج الفكرة لدى إحدى دول الساحل وكم تتمنى أمريكا أن تكون الجزائر. •الجزائر والأطماع الأمريكية لقد كانت عين أمريكا منذ البداية على الجزائر اعتقادا منها أن تجربة الجزائر مع العنف والجماعات المسلحة سيدفعها إلى القبول بالفكرة وتأييدها دونما اعتبار لحقيقة الميدان والأهداف الحقيقية من وراء ذلك ومصلحة الجزائر فيها، ومواقفها المبدئية التي عرفت بها تجاه القواعد العسكرية الأجنبية. وقد كان طبيعيا أن ترفض الجزائر العرض وتكون من أشرس الرافضين والمقاومين له بما أتيح لها من وسائل سياسية وخيارات دولية، إلى درجة شعرت فيها أمريكا أن مشروعها سيبوء بالفشل مما حذا بها إلى الاستعانة بفرنسا على اعتبار أن لها نفوذ كبير في مستعمراتها القديمة لكن يبدو أن المهمة لم تكن بالسهولة التي تصورها الأمريكيون والفرنسيون. عندما اصطدمت مخططاتهم بجدار الفشل اقتنع الأمريكيون أن حججهم كانت ضعيفة ومبرراتهم لم تكن مقنعة وذرائعهم لم يكن لها ما يؤكدها على الأرض. فالمنطقة وإن كانت تعرف بعض المشاكل، كالجريمة والتهريب، وبعض الاحتجاجات، وأزمة التوارق في مالي والتي سرعان ما أطفئت نار حربها، فإنها لم تكن لا بالخطورة ولا بالسوء الذي كانت تقدمها به أمريكا، ومن هذا الباب بدأت الرياح تتسرب وتعصف بالمنطقة. •تأجيج النزاعات لتبرير التدخل لم يكن الوضع في منطقة الساحل والصحراء بالسوء الذي وصل إليه هذه الأيام سواء من الناحية الأمنية أو الإجرامية، أو النشاطات غير الشرعية كالاتجار بالمخدرات والأسلحة، قبل أن يخيب مسعى أمريكا في تجنيد وجر دول المنطقة إلى حرب أخرى لا وجود لها إلا في مخيلة الاستراتيجيين الأمريكيين، حرب مع ما تسميه واشنطن شبكة القاعدة التي تدعي أنها اتخذت من منطقة الساحل والصحراء مرتعا لها، لأنها حسب التفسير الأمريكي منطقة شاسعة الأرجاء لم يعد بمقدور الحكومات المركزية أن تراقبها أو تبسط عليها سيطرتها الأمنية. الأوضاع في منطقة الساحل والصحراء عرفت حقا تدهورا كبيرا اتسم ببروز بعض بؤر النزاع من جديد على رأسها إشعال فتيل الحرب بين التوارق والحكومة المركزية في مالي بعد أن ظن الجميع أن الأزمة انتهت بتوقيع الفرقاء على اتفاقية الجزائر التي وضعت قطار الحل وتسوية النزاع على سكته الصحيحة لولا استثمارات جديدة جاءت لتعيد الأمور إلى نقطة البداية. إلى جانب تجدد الحرب بين المتمردين التشاديين وحكومة نجامينا. كل هذا بالإضافة إلى انتقال بقايا الجماعات المسلحة إلى استعمال هذه المنطقة في نشاطات إجرامية لإيهام الرأي العام أن تنظيم القاعدة نسج شبكته في المنطقة مما يفضي على المنطق الأمريكي شيئا من المصداقية ولو بأثر رجعي. •مهمة مزدوجة اليوم والوضع كذلك فليس أمام دول المنطقة سوى الاضطلاع بما خلفته هذه التطورات والتأثيرات الدولية من أزمات جديدة وما عمقته من مشاكل قديمة، حتى لا يقال مرة أخرى أن هذه المساحة الشاسعة لم تعد خاضعة للسلطات المركزية التي عجزت على السيطرة عليها فأضحت مرتعا للقاعدة والجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات والأسلحة، وممرا للهجرة غير الشرعية، ومع ذلك ترفض المقترح الأمريكي العملي الذي تتمناه أي منطقة في العالم للمساعدة على حمايتها مما تسميه أمريكا الإرهاب العابر للقارات. في هذا الإطار بالذات تأتي قمة باماكو للدول السبعة المطلة على الساحل والصحراء، المزمع تنظيمها على مستوى الرؤساء بداية جويلية القادم، بمشاركة كل من مالي والنيجر، والتشاد، وبوركينا فاسو، وموريتانيا وليبيا، والجزائر. ومن المنتظر أن تقدم ندوة السلم في المنطقة مقاربة لفهم مشترك للمشاكل المطروحة بغية اقتراح تحركات ملموسة لإيجاد حلول مناسبة لها. والظاهر أن عزم الدول تنسيق مواقفها بعد تمزق طال فترة طويلة كانت كافية لتتضاعف المخاطر، يعني أنها اقتنعت بضرورة مواجهة مشاكلها بنفسها وقطع الطريق أمام محاولات القوى الأجنبية الاستثمار فيها وإعطائها الوجهة التي تبغيها وفق تصوراتها ومصالحها الإستراتيجية وعلى رأسها أمريكا وفرنسا. •الجزائر والدور المطلوب إن قمة بماكو وهي تناقش وتعالج هذه المشاكل الداخلية التي تعصف بها، وتبحث سبل حلها بمختلف الطرق نظرا لاختلاف وتنوع طبيعة هذه الأزمات المطروحة من السياسي إلى الاقتصادي مرورا بالأمني وحتى الديني لمواجهة حملات التنصير الذي تنشطها الكنيسة البروتستانتية في المنطقة بدعم من الإدارة الأمريكية، تجد نفسها في الوقت ذاته تواجه أطماع ومحاولات التدخل الأجنبية للسيطرة على المنطقة، وتسحب منها الذرائع والحجج التي تقدمها لبسط سيطرتها العسكرية والاقتصادية على منطقة الساحل والصحراء. وتلك من أهم سمات اضطلاع الدول بحل مشاكلها بنفسها وبالتنسيق فيما بينها، لأنها السبيل الوحيد لتحصين استقلال سيادتها وقطع دابر التدخل الأجنبي والتبعية للخارج. الجزائر وبالنظر إلى عدة عوامل لعل أهمها ما يتعلق بالمعطيات الجيوسياسية متاح لها أن تلعب دورا حيويا في تمكين دول المنطقة من الاضطلاع بحل مشاكلهم بمنأى عن التدخلات الأجنبية التي تقف وراء معظم مشاكل وأزمات المنطقة وتعمل على تعميقها وتجذيرها حتى تُبقي على ذريعة التدخل والهيمنة قائمة. •أوراق رابحة إن الاستقرار الأمني والسياسي الذي عرفته الجزائر في السنوات الأخيرة وتنافس العواصمالغربية على الفوز بتأييد الجزائر لسياستها وعلى رأسها فرنسا التي تترقب انضمامها لمشروع الاتحاد من أجل المتوسط الغالي جدا على ساركوزي، وأمريكا التي لم تيأس بعد من ترقب مراجعة الجزائر لموقفها تجاه الأفريكوم، وحرص بعض دول المنطقة الرافضة للسياسة الأوروبية كليبيا على استقطاب الموقف الجزائري، ودور الوسيط المقبول في العديد من النزاعات الإفريقية ونجاحها في الجمع بين الفرقاء في أكثر من فتنة إفريقية، كل ذلك يؤهل الجزائر ليكون لها دورا طلائعيا في بلورة موقف سياسي لدول المنطقة، ومخطط عملي لحل وتسوية مشاكلها ومحاربة أمراضها، ويمنحها مساحة كبيرة للمناورة وقدرة اكبر على التفاوض مع المتعاملين الغربيين، والمرافعة لصالح مواقف إفريقيا عامة ودول الساحل ومنطقة الصحراء بصفة خاصة، سواء في إطار المنتدى المتوسطي أو الاتحاد من اجل المتوسط أو التصورات الأمريكية أو غيرها من المحافل التي يراد للجزائر أن تكون احد أعضائها الأساسيين . [email protected]