تقرير شكْل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر، وهو المعترك الأكبر للباحثين والميدان الذي قلّ فيه من البشر من لا يجول فيه على فيل من الفكر، أو جمل من الجهل، أو على فرس من الفراسة، أو على حمار من الحمق، حتى جاء الزمن الأخير فجال فيه إنسان الغرب جولة المغوار، الممتطي في التدقيق مراكب البخار. الكلام السابق منقول عن كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) لصاحبه المفكّر عبد الرحمان الكواكبي ذلك الرجل الذي عاش ثائرا على الظلم ومات غدرا على يد أحد المستبدّين.. يضيف الكواكبي في هذا السياق: (فقرّر، أي إنسان الغرب، بعض قواعد أساسية في هذا الباب تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحق اليقين، فصارت تعدّ من المقررات الإجمالية عند الأمم المترقية، ولا يعارض ذلك كون هذه الأمم لم تزل أيضا منقسمة إلى أحزاب سياسية يختلفون شيعا، لأن اختلافهم هو في وجوه تطبيق تلك القواعد وفروعها على أحوالهم الخصوصية). أسوق هذا الكلام، مع بعض التحفظ، بين يدي الكمّ الهائل من الجدل الذي يدور في الساحة السياسية الجزائرية حول الإصلاحات المرتقبة، أسوقه متفائلا بأن يكون الجدل من ذلك النوع الذي تحدّث عنه الكواكبي، أو على الأقل في وجوه الوصول إلى قواعد وفروع الحكم والسياسة التي تصل ببلادنا إلى قدر معقول من الإجماع حول الخطوط العريضة، ويكون حادي الجميع في طريقهم مصلحة الوطن وحده وحمايته من مغامرات دعاة الخروج إلى الشارع أو حلفائهم العاضّين بالنواجذ على مراكز القرار والمسؤولية حيث لا يرون أنفسهم من دونها شيئا مذكورا. عناوين الجدل كثيرة ومنها: هل تتحول الجزائر إلى النظام البرلماني أم تظل على حالها مع الرئاسي؟.. أين تتجه البلاد بعد أن وجدت نفسها أمام معضلتين: الأولى داخلية أملتها الوضعية الراهنة للجبهة الشعبية المتميزة بالغليان والاحتجاجات والاضطرابات، والثانية خارجية جاءت من رياح التغيير التي عصفت على عدة بلدان عربية؟.. هل يكفي استعمال القنوات الديمقراطية داخل القاعات لامتصاص الاحتقان الشعبي والمطالبة بالتغيير الجذري والابتعاد بالتالي عن الشارع الذي قد يؤدي إلى انزلاقات في الوضع؟.. هل يغني الإعلان عن إصلاحات سياسية أم أن الشعب يريد سقفا زمنيا واضحا دون مماطلة وتلاعب بعامل الزمن؟.. وهل الإصلاحات ضرورة تمليها طبيعة الحراك الإنساني أم أنها عودة إلى الوراء وتنكّر للإنجازات التي عرفتها الجزائر منذ خمسين عاما؟.. وهل نحن في حاجة إلى إعداد قانون جديد للانتخابات والأحزاب والإعلام يضمن حريات حقيقية وحركية سياسية فاعلة ومن هناك نجد أنفسنا أمام التغيير السلمي في التوازنات والمعادلات السياسية القائمة منذ عشر سنوات على الأقل؟.. كلام كثير حول ضرورة التعجيل بالإصلاحات أو الهروب إلى الأمام عبر محاولات شراء السلّم والأمان الاجتماعي من خلال بوابات القروض والمشاريع والأعداد الهائلة من مناصب العمل المقترحة وغيرها.. لكن السؤال المطروح: هل يغني هذا الحذر من قدر قد يكون في الأفق ويحاول كثيرون استبعاده بترديد عبارات شبه متطابقة مفادها أن الجزائر اكتوت بنار الفتنة ونالت نصيبها من الاضطرابات فدفعت ضريبة غالية بدم أبنائها خلال العشرية السوداء؛ وبالتالي تظل فكرة الخروج الكثيف إلى الشارع خارج الحسابات السياسية والسيناريوهات التي تتوقعها الجهات النافذة ومن حولها. إن إشاعات وأخبارا كثيرة تسري سريان النار في الهشيم بين المواطنين، وملخّصها أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في طريقه إلى إعلان إصلاحات حقيقية وتحولات جذرية تتناسب مع المرحلة التي تمرّ بها بلادنا ومحيطها المغاربي والعربي.. لكن بعض أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية لا يرضيهم ذلك، ويلوكون في هذا السياق مبرّرات ومخاوف بعضها وجيه من الناحية الشكلية فقط، أما البعض الآخر فقد أكل عليه الدهر وشرب. يقول أحد الحكماء: (من لا يغيّر آراءه مثله مثل الماء الراكد يسمح للزواحف أن تنمو في عقله).. وكل متابع للشأن الجزائري يدرك حجم وخطر الزواحف السياسية والاجتماعية والثقافية التي اجتاحت الجزائر في عدد من المراحل بسبب جمود الآراء الذي ولّد زواحف في العقول مثلما يحدث مع مياه المستنقعات التي تظل زمنا دون تجديد من أمطار أو ثلوج ذائبة. ماذا يريد هؤلاء تحديدا؟.. هل يرغبون فعلا في دفع البلاد نحو الاحتقان ثم الفوضى العارمة؟.. بينما يجمع العقلاء على أن الوضع الراهن في حاجة إلى خطابات ورسائل تهدئة صادقة من جميع الأطراف وإلى أبعد الحدود. نعم لقد عرفنا التغيير منذ 1989، لكن ذلك زمان وتلك أجيال.. فالله الله فينا، ارحمونا يرحمكم من مثل هذه العبارات لأنها صارت مستفزّة، وعلى أصحابها أن يتحفونا بسكوتهم وهو أضعف الإيمان في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الجزائر. إن التغيير ضرورة إنسانية مستمرة، والمراجعة الدورية للأوضاع والسياسات من شيم الحكماء، والهروب إلى الوراء والاحتماء بالماضي لم يعد مستساغا من أحد، وليس بين أيدينا سوى الهرولة إلى الأمام، بل الركض السريع حتى تتناغم سياساتنا وأساليب حكمنا مع تطلعات الشباب الذين يشكلون ثلاثة أرباع المجتمع الجزائري. تعالوا لنتداعى بصوت واحد: لا نريد ضغطا سياسيا غربيا ولا تهييجا إعلاميا شرقيا، لكننا نريد إبداعا جزائريا خالصا يختزل المشكلة والمخاوف ويصل بالبلاد إلى شاطئ الأمان.. إننا متميزون في كثير من الجوانب، فتلكن خطواتنا وإجراءاتنا وإصلاحاتنا متميزة.. إن الإبداع هو أن ترى ما لا يراه الآخرون.. وقد برهن الآخرون عن تخبّطهم وفشلهم في عدة دول عربية وهم يحاولون الخروج من عنق الزجاجة.. ونأمل أن يتجنّب صانع القرار في الجزائر جميع المطبّات والمزالق والحفر التي وقع فيها الجيران والإخوان العرب.