خلفت الإضرابات التي شهدها قطاع الصحة خلال الأسابيع الأخيرة تأجيل آلاف المواعيد الطبية سواء تعلق الأمر بعمليات جراحية أو فحوصات طبية، والتي عادة ما تكون مصحوبة بوفيات، لا سيما في المراكز أو المؤسسات الاستشفائية المتخصصة على غرار مركز مكافحة السرطان بيار وماري كيري بمستشفى مصطفى باشا، وبالرغم من قرر تجميد الإضراب من طرف الأطباء المقيمين وغيرهم من عمال القطاع الصحي، إلا أن التراكمات ما زالت موجودة والضحية الأولى والأخيرة هو المريض. تعرف المستشفيات حركة عادية بعد أن قرر الأطباء المقيمون تجميد إضرابهم الذي دام قرابة الأربعة أشهر، الأجواء قد تبدو أكثر من عادية وكما قد يصفه البعض هي العودة نحو الهدوء، إلا أن واقع الأروقة والقاعات داخل هذه المركز الصحية لا ينبئ بحقيقة ما قد نراه في الخارج، حيث أن الإضرابات المتتالية تركت مخلفات واضطرابات سيكون من الصعب مواجهتها بالإمكانيات المتوفرة على مستوى هذه الهياكل الصحية. خلال الجولة التي قمنا بها بمستشفى مصطفى باشا بالعاصمة، كانت وجهتنا مركز »بيار وماري كيري«، لمكافحة السرطان، هذا المكان الذي يتحاشى كثيرون مجرد الحديث عنه، ولعل ولوج هذا المركز في أوقات الزيارة سمح لنا بالمرور عبر غرف المرضى، عائلات تجلس بقرب مرضاها آملة لها الشفاء من مرض خبيث قد يفتك بصاحبه في أي لحظة، لم نعرف بهويتنا وتظاهرنا بالبحث عن مريض قدم لإجراء عملية جراحية، وعليه كان من الصعب استجواب تلك العائلات، بعدها قررنا مغادرة المكان الذي لا يزال يحتفظ بمراحيض تقليدية للتكفل بمرضى يعانون من أمراض جد خطيرة بدل استعمال مراحيض حديثة تسمح لهم بالجلوس، ناهيك عن انعدام النظافة لأسباب مجهولة. من الصعب الحديث عن وضعية المرضى وسبل التكفل بهم في المستشفيات العمومية التي تشتهر بالإهمال بالرغم من توفر مبالغ مالية معتبرة ترصد لقطاع الصحة كل سنة، وهذا لا يعني في أي حال من الأحوال أن المرضى يجدون ضالتهم في العيادات الخاصة التي تستغل ضعفهم وقلة حيلتهم لسرقة أموالهم. وبالنظر إلى هذه المعطيات، فإن الإضرابات التي عرفها القطاع الصحي، سواء تعلق الأمر بالأطباء الممارسين، الأخصائيين، شبه الطبيين أو المقيمين، كان لها وقع كبير وأثر جد سلبي على المرضى الذين يأتون إلى هذه المصالح من كل ربوع الوطن في ظل انعدام الإمكانيات خاصة في المناطق النائية. والنتيجة واضحة للعيان، مواعيد مؤجلة ، أسابيع بل شهور من الانتظار لإجراء فحص طبي، عملية جراحية أو حصة من حصص العلاج الكيمائي أو العلاج بالأشعة، ناهيك عن المواعيد الخاصة بالصور بالأشعة والسكانير التي تحولت إلى نوع من الكماليات البعيدة المنال بالنسبة للمريض البسيط الذي قد لا يحوز على الإمكانيات اللازمة لإجراء هذه الفحوصات عند الخواص. جراحون يستغلون الإضراب لتوجيه المرضى نحو العيادات الخاصة السيدة عتيقة تروي قصة زوجها الذي توفي الشهر الفارط عن عمر يناهز 65 سنة والذي لم يتمكن من إجراء عملية جراحية لمعالجة سرطان القولون والمستقيم، وذلك بسبب تراكم المواعيد الجراحية، ويبقى أن المسؤولين على مستوى مركز مكافحة السرطان يستغلون فرصة الإضرابات لتوجيه هؤلاء المرضى إلى عياداتهم الخاصة بالرغم من أنهم على دراية بأن المريض لا يملك أي فرصة للنجاة. التقينا عددا من الطلبة بعد أيام معدودة من تجميد إضراب الأطباء المقيمين، حديث هؤلاء الطلبة على ظروفهم الدراسية والمهنية ومستقبلهم كأطباء لا يكاد ينقطع، واعتبروا أن تجميد الإضراب هدنة مؤقتة بسبب العطل الصيفية وذلك لضمان أدنى حد من العلاج والتكفل بالمرضى، فيما قرروا العودة إلى الإضراب مع الدخول الاجتماعي المقبل. وبالنسبة لهم فإنهم غير مسؤولين عن تأخر المواعيد الطبية أو الوفيات التي قد تنجر عن ذلك العطل، وبالرغم من استئنافهم العمل، إلا أن المشكل لم يحل، وهم يتحملون 3 مسؤولية ذلك التأخر وتلك التراكمات رغما عن أنفهم لأن الأطباء لم يكثفوا جهودهم في فترة الإضراب وكانوا ينشطون وفق عتبة الممكن وبالتالي فإن المقيمين هم من يدفعون النتيجة الآن. *الوساطة الحل الوحيد للحصول على سرير بالمستشفى ولعل أول سؤال يتبادر إلى ذهن كل زائر للمراكز الاستشفائية، يخص طريقة إدارة هذه الهياكل، حيث أن الإدارة وفي الوقت العادي كانت عاجزة عن تلبية الطلبات المتزايدة على المواعيد الطبية فكيف بعد الإضرابات المتتالية؟ الأكيد أن المريض »الزوالي« كما عبرت عنه إحدى السيدات هو من يدفع الثمن. تلك السيدة التي كانت رفقة سيدة أخرى أصغر منها سنا وشاب لم تتردد في القول »لدينا مريض أجرى عملية جراحية على مستوى هذا المركز، في إشارة منها إلى »بيار ماري كيوري«، يا إبني الجميع يعلم أنه في حال غياب المعريفة لا يمكن معالجة المريض، هكذا تسير الأمور للأسف«، وغير بعيد عنها إحدى الفتيات اشتكت الإهمال الذي تسبب في إعاقتها، والراجع إلى تأخر المواعيد، ففي كل مرة تجد نفسها في أجندة جديدة ومضطرة للذهاب والإياب دون الحصول على جرعة العلاج اللازمة. ولعل ما يؤكد صحة هذه الوقائع، ما صرح به أحد المختصين في التخدير والذي رفض الإفصاح عن اسمه، حين قال: »إننا نعاني مخلفات الإضراب الذي نعتبره حقا مشروعا إلى غاية تلبية مطالبنا، ولكن بالمقابل هناك مرضى يتوفون يوميا، أنا شخصيا شاهد على ثلاثة وفيات على الأقل، ناهيك عن تلك العمليات الجراحية التي نجريها بين الحين والآخر دون جدوى، هي عمليات شكلية، يشق المريض ويخاط دون أي تدخل، لأن المرض عادة ما يكون قد استفحل وانتشر عبر كل الجسد بعد شهور من الانتظار«. جمعية »الأمل« تستقبل مئات الشكاوى والأطباء تحولوا إلى بزناسية خطاب حميدة رئيسة جمعية الأمل لمكافحة السرطان ومساعدة المرضى المصابين بهذا الداء الخبيث، لم تتردد في الحديث عن الحجم المعتبر للمكالمات الهاتفية التي تتلقاها يوميا من مواطنين بسطاء لم يتمكنوا من الولوج إلى مركز معالجة السرطان، يعانون من تأخر مواعيد العمليات الجراحية ومواعيد العلاج الكيمائي، وغيرها من المواعيد الطبية، منهم من يموت قبل بلوغ الموعد وغيرها من المخلفات التي تقشعر لها الأبدان على حد تعبير السيدة خطاب. وفي رأي رئيسة الجمعية فإن الأطباء تحولوا إلى »بزناسية« لا تهمهم الحياة البشرية، يستغلون فترة الإضراب لتوجيه المرضى نحو القطاع الخاص وغيرها من الممارسات التي لا يرعى فيها الجانب الإنساني، خاصة وان هناك عديد المرضى القادمين من ولايات داخلية وأخرى نائية وليس لديهم أدنى الإمكانيات من إيواء واكل وغيرها من المصاريف. بدورها مصالح أخرى تعرف اكتظاظا كبيرا للمرضى القادمين للعلاج، وبدورها مصلحة الاستعجالات الطبية على مستوى مستشفى مصطفى باشا أصبحت تعاني من هذا الاكتظاظ، حيث عدد الأسرة لا يستجيب لعدد المرضى، إضافة إلى نقص الكراسي المتحركة الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى إضراب كراسي خاصة بهم لنقل مرضاهم، هي نتائج حتمية لتراكمات ونقص الفريق الطبي، حيث أن عودة الأطباء المقيمين إلى أماكن عملهم قابلتها العطل السنوية للأطباء الأخصائيين والممارسين وبالتالي فإن التغطية الصحية تبقى دون المستوى المطلوب. يصعب التكهن بطبيعة العصا السحرية التي ستعالج مخلفات الإضرابات التي هزت قطاع الصحة بداية من العام الجاري والتي يعتزم أصحابها مواصلتها بداية من الشهر المقبل بالنسبة لشبه الطبيين الذين سيدخلون في إضراب مفتوح والأطباء المقيمين الذين قرروا رفع التجميد عن قرار الإضراب في شهر سبتمبر من العام الجاري، ليبقى المريض نقطة الضعف الوحيدة والضحية الحقيقية، ولذلك، تفتح العيادات الخاصة أذرعها أمام الفقراء لمص مزيد من الدماء واستغلال العجلة المتوقفة في المستشفيات العمومية.