بعد ثلاث سنوات من اندحار المستعمر الفرنسي قاد العقيد هواري بومدين انقلابا عسكريا (عُرف بالتصحيح الثوري) ضدّ أحمد بن بيلاّ أول رئيس جزائري لدولة الاستقلال.. تم اعتقال الرئيس ومن ثم عزله بتهم الإسراف واستخدام أموال الدولة في غير وجهها الصحيح، ومن هناك وجد نفسه في إقامة جبرية طوال السنوات التي ظل فيها بومدين على رأس هرم السلطة في البلاد. بعد وفاة الرئيس هواري بومدين دار بعض الجدل حول الشخصية المناسبة لشغل الفراغ الذي خلّفه الرجل القوي، وخاضت في الأمر جرائد ومجلات عربية أوردت إحداها موقفا أو قصة منسوبة للرئيس بومدين وهي محلّ الشاهد في هذا السياق. ملخص القصة أن جهات غير جزائرية أشارت على العقيد هواري بومدين، رئيس مجلس قيادة الثورة، بفكرة محاكمة الرئيس المخلوع أحمد بن بيلاّ ومن ثم إعدامه لأن التهم الموجّهة إليه تكفي لهذا الأمر على حدّ زعمهم.. الطريف أو الغريب أن الرئيس بومدين رفض الفكرة من أساسها خوفا من تلك الصورة غير المرضية: (حتى لا يُقال إن الجزائر تحاكم رؤساءها). إنها نظرةٌ حكيمة من رجل الجزائر القوي في ذلك الوقت، ورغبةٌ في احترام سمعة واسم الدولة مهما كانت التجاوزات، وهي وجهة نظر صحيحة، من بعض الزوايا على الأقل، لأن أي رئيس مخلوع أو مطرود (أو مقلوب) كان رمزا للدولة والشعب سنين عددا، وقد رأينا كيف تحترم الشعوب المتقدمة رؤساءها السابقين وتحيطهم بالأمن والرعاية والتبجيل. ومن فكرة الرئيس بومدين مع خصمه أحمد بن بيلاّ ننتقل إلى أيامنا العربية الراهنة حيث تابع العالم على الهواء مباشرة أولى جلسات محاكمة الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك ليفوز الرجل بلقب (أول رئيس عربي معاصر يدخل قفص الاتهام أمام الملأ). وقبل الحديث عن المقدمات التي أوصلت مبارك وابنيه ومساعديه إلى هذا المصير البائس؛ لا بد من التأكيد على أهمية اللحظة وجسامة الموقف لأن التاريخ كان حاضرا بقوة ليسجّل درجة الانعطاف التي حدثت في مسيرة العالم العربي المعاصر.. وشخصيا لم أشعر بالفرح الطفولي، وكلّنا أطفال في أوقات ما، وأنا أشاهد مبارك وجماعته داخل القفص، ولا أدري ما السبب.. ربما لأن عظمة المشهد، والتحول الذي يجسّده، كانت أكبر بكثير من الفرح. وعودة إلى نظرة الرئيس بومدين، وضرورة الحفاظ على سمعة الدولة، لنتساءل عن الأسباب التي تدفع المؤسسة العسكرية المصرية إلى الموافقة على محاكمة أحد أبنائها الذين شاركوا في حرب أكتوبر عام ثلاثة وسبعين من القرن الماضي، وساهم بقدر ما في صنع الانتصار التاريخي الذي أذهب بعض المرارة من قلوب المصريين والعرب بعد نكسة عام سبعة وستين وفضائحها العسكرية المدوّية. الرئيس المخلوع حسني مبارك في سن الثالثة والثمانين ومع ذلك أمر القضاءُ بإحضاره على سريره الطبّي ليكون ضمن المتهمين داخل قفص الاتهام.. فلا تاريخه العسكري وفّر له الحدّ الأدنى من الحصانة، ولا مرضه وسنّه شفعا له في الغياب.. فما الذي حدث؟.. إنهم ثمانمائة وخمسين شهيدا، وأكثر من ستة آلاف جريح معظمهم من الشباب الذين شكّلوا الوقود الأساسي لثورة الخامس والعشرين من يناير مطلع العام الجاري.. والمتهم في القتل والجرح والترويع هو مبارك وأركان حكمه.. هذا ما حدث في أيام معدودة، أما خلال ثلاثين سنة من الحكم المتواصل فحدّث ولا حرج.. لقد تحول نظام الحكم إلى عصابة تنهب المال العام وترهن البلاد للأجانب وتهدر كرامة المصري في الداخل والخارج وتبيع كل شيء بدءًا من المواقف وليس انتهاءً بالثروات ومنها الغاز المصري الذي يصل إلى دولة إسرائيل بأسعار زهيدة للغاية.. لقد طفح الكيل وفاضت الكأس بما فيها ولم يعد في وسع المجلس العسكري فعل شيء سوى التضحية بمبارك وتقديمه قربانا على مذبح الشعب ليستريح ولو إلى حين وتعود إلى ميدان التحرير حركته ويومياته العادية. كم كنتَ يا مبارك في غنىً عن هذا المصير المشؤوم.. لقد حكمت مصر بما فيه الكفاية وأُعيد انتخابك عبر الاستفتاء في سنوات سبعة وثمانين وثلاثة وتسعين وتسعة وتسعين من القرن الماضي، وكان بوسعك المغادرة مع بزوغ فجر الألفية الثالثة لكن عشق الكرسي أعماك فدفعك إلى خوض غمار انتخابات جديدة عام ألفين وخمسة كان ظاهرها التعددية وباطنها التزوير والإكراه والتلاعب بأصوات الناس. المحزن أن الحالة المصرية ليست شاذة في سياق الزمن العربي المعاصر فقد وصلت الأمور في دول عربية أخرى إلى درجة متقدمة جدا من التعفّن، ولم تترك بعض الحكومات العربية مجالا للإصلاح عندما فتحت البلاد أمام ثالوث الفساد والعمالة والاستبداد، وهاهو الأمر يتكرر في سوريا واليمن حيث يُقتل المتظاهرون بالرصاص الحيّ ويتفنّن الجالسون على الكراسي في توزيع تهم العمالة والارتباط بالأجنبي. في بعض النماذج الأخرى وصلت مستويات نهب المال العام إلى درجة التقويض المنظّم للدولة والتبديد المنهجي لأموال الشعب.. إنها جرائم كبيرة يدرك أهل الاختصاص مسمياتها القانونية، لكنها بالتوصيف العام أعمالٌ وتحركات منظمة تسعى جاهدة في وضع العصيّ بين دواليب التقدم السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة، والهدف هو البقاء في الحكم وجمع أكبر قدر من الأموال. الأمر خطير وقد يضعنا تاريخيا في عصر ربما تكون سمته البارزة: (محاكمة وإعدام الرؤساء وحواشيهم).. والخلاص من هذه اللعنة التاريخية المتوقعة في يد أصحاب القرار وحدهم.. بعض الحكمة والشجاعة فقط، ومن هناك تنطلق رحلة الهجرة نحو الشعوب، فرغم ما حدث ما زال لديها بعض الصبر والرحمة والعطف.. ستقول: اذهبوا فأنتم الطلقاء.. لكن افعلوها يا ما يعنيكم الأمر، وتوبوا قبل فوات الأوان.