يظل الركود السمة الغالبة للمشهد السياسي الوطني، فالحركية الاجتماعية التي تشهدها الجبهة الاجتماعية على خلفية الأيام الأولى من شهر الصيام التي غلب عليها حر الطبيعة ونيران الأسعار التي بلغت عنان السماء وضاعفت من معاناة ذوي الدخل البسيط، لم تفلح في إيقاظ الطبقة السياسية التي دخلت جل تشكيلتها في سبات عميق لن تفيق منه قبل نهاية رمضان. شكلت محاكمة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ونجليه، جمال وعلاء، ووزير الداخلية في عهد الدكتاتورية والاستبداد، حبيب العدلي، العنوان البارز لهم الأحداث التي جلبت انتباه الجميع خلال الأيام الأخيرة، فبين التعاليق التي تتشفى بأسلوب سياسي وإعلامي غير مباشر، وأخرى تكرر الدعوة إلى رحمة »عزيز قوم ذل«، تبرز حقيقة ساطعة يمكن قراءتها من زوايا مختلفة، فمحاكمة مبارك ونجليه وبعض أركان نظامه، ورغم ما يقال عنها من أنها ربما مجرد مسرحية للمجلس العسكري الذي يحكم مصر بدل من الذين قاموا ب »الثورة« وهي مفارقة غريبة في هذا لازمان، على اعتبار أن الثورات تحكم نفسها بنفسها عادة وتقدم نفسها بديلا للنظام البائد، في حين يحكم العسكر مصر، وهم الذين لم يبرحوا الحكم في بلد الكنانة منذ الخمسينات، وتحكموا في العلبة السوداء لكل الأنظمة التي حكمت مصر منذ عبد الناصر والسادات وصولا إلى مبارك. الرئيس المصري واجه بالإنكار تهم يؤدي أغلبها إلى حبل المشنقة، وإن كان إعدامه مستبعد لأكثر من سبب، قد يرتبط بالجانب الإنساني، أو بالجوانب القانونية، والسياسية، فالمجلس العسكري الذي يقتسم جزءا من المسؤولية عن حكم مصر بالحديد والنار وقمع شعبه وقتله وتعذيبه، لن يغامر بإعدام رجل خرج من صلب المؤسسة العسكرية، ثم إن أمريكا وإسرائيل والقوى العظمى كفرنسا وبريطانيا لن يتقبل بإعدام من كان خادمها الأمين حتى وإن وقفت متفرجة وهي تراه يسقط كأوراق الخريف، وأي محاولة للمقارنة بين محاكمة صدام وأركان نظامه، ومحاكمة مبارك وأركان نظامه، هي مقارنة خاطئة، فصدام حوكم وأعدم من قبل أمريكا التي احتلت العراق، ومن قبل إيران أيضا التي فضلت الانتقام، على طريقة الفرس من كل ما يرمز إلى عهد صدام الذي جرها إلى حرب طاحنة خلفت ما لا يقل عن مليون قتيل. لقد حملت محاكمة حسني مبارك ونجليه وأركان نظامه العديد من الرسائل، بغض النظر عن خلفياتها، وعما ستؤول إليه، فلأول مرة يحاكم شعب عربي طاغية من الطغاة الذين يحكمونه بالحديد والنار، ولأول مرة يقف حاكم عربي أمام الجميع ليجيب عن أسئلة تتعلق بقتل شعبه وهدر مال بلده، وهذه الرسالة البليغة يجب أن تصل لكل حاكم عربي، وتتحول إلى درس لولائك الحكام الذين ضنوا أنفسهم آلهة نزهوا أنفسهم حتى من المحاسبة، وضن بعضهم أنه لن يغادر السلطة إلا على النعش. وأما على المستوى الداخلي، فإن جلسات الاستماع التي شرع فيها الرئيس الجمهورية والتي خصصها أول جلسة منها لقطاع المالية، قد تشكل فرصة لتقييم عمل الحكومة والوقوف عند انجازات وإخفاقات أهم القطاعات، ومن ثمة بناء فكرة واضحة عن العمل الحكومي، قد يدفع بالرئيس ربما إلى التفكير في القيام بتغيير حكومي ولو جزئي بعد رمضان الجاري. لقد سيطر الركود بشكل غير مسبوق على المشهد السياسي الوطني، فجل مكونات الطبقة السياسية فضلت الركون إلى الراحة والتزام الصمت والصوم حتى عن التصريح أو القيام بأي جهد سياسي مهما كان بسيطا، ويشكل رمضان من كل سنة فرصة أخرى ليكتشف الجميع عورات أغلب الأحزاب السياسية التي تلتزم الصمت في أغلب أيام السنة وكأن ما يدور من أحداث سياسية و أو غير سياسية لا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد. فرمضان يجعل الصيام السياسي سمة غالبة في مختلف الأحزاب، فالحركية القليلة التي يمثلها في الغالب نسبة من المهوسين بإثارة الفتن الحزبية وخوض المعارك الطاحنة للتموقع، خاصة في ظل رواج »التقويميات والتصحيحيات والاصلاحيات« الحزبية المختلفة، على خلفية ظهور بوادر استحقاقات انتخابية وقرب المعارك الانتخابية، تنطفئ في هذا الشهر الكريم، الذي يتحول عند السواد الأعظم من الجزائريين إلى شهر للركون إلى الراحة والاتخاذ من الصيام حجة مبررا لهجران المشهد السياسي. واللافت أن الركود السياسي الحاصل يتزامن مع حركية اجتماعية كبيرة في الأسبوع الأول من رمضان، فالارتفاع الجنوني في أسعار العديد من المواد الاستهلاكية، خاصة الخضر والفواكه واللحوم بأنواعها، وتصاعد حدة الجدل حول حمى الأسواق وحول المضاربات ومشاكل أخرى كثيرة منها ندرة العديد من الأدوية الضرورية، فكل هذه المسائل وأخرى لم تحرك سواكن الطبقة السياسية ولن يقنعها بوجوب التحرك والمساهمة في البحث عن حلول أو حث الحكومة وحملها على التحرك والتخلي عن دور المتفرج للمعاناة الكثيرة التي يكابدها أغلب المواطنين. محاكمة مبارك تذكرنا بما قاله العقيد معمر القذافي للحكام العرب، بعد إعدام صدام حسين لما نبههم إلى أنهم سوف يلقون نفس المصير، ويبدو أن القذافي كان أكثر الحكام العرب إدراكا لهذا المصير فخاض حربا ضروسا ضد المعارضة المسلحة أو من يسمون ب »ثوار الحلف الأطلسي« الذين حولوا ليبيا إلى حمام من الدماء بفعل الحرب التي يقودونها ضد النظام الليبي، وبفعل القصف العشوائي الذي يقوم به النيتو ضد الشعب الليبي بدعوى حمايته من معمر القذافي. ويبدو من جهة أخرى أن الأحداث السياسية التي تعج بها المنطقة العربية، في ظل ما اصطلح على تسميتها ب »الثورات العربية«، في إشارة إلى الفتن التي تدمي أكثر من بلد عربي، خاصة ليبيا وسوريا واليمن، لم تقنع الطبقة السياسية بضرورة التزام التجند المتواصل، فالحاصل في البلدان العربية المذكورة ليست قدرا على شعوب هذه البلدان، بل هي فتن قد تضرب أي قطر من الأقطار العربية في أي وقت وأي لحظة، والدخول في الجدل العقيم حول مستقبل الإصلاحات السياسية في الجزائر، والتساؤل عن السر الذي يجعل السلطة تتأخر في الكشف عن رزنامة الإصلاحات السياسية والدستورية التي أعلن عنها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في خطابه الشهير للأمة، لن يكفي وحده لتجنيب البلاد الوقوع في سيناريو الفتن العربية، وإذا كان يحق للبعض طرح تساؤلات عن النوايا الحقيقية للسلطة من وراء هذه الإصلاحات، فالأولى هو أن تقوم الطبقة السياسية بدورها على أتم وأكمل وجه في الدفاع عن أهم قضايا المواطنين، وعدم الاكتفاء بالتفرج، أو محاولة استغلال غضب المواطنين، من حين لآخر لإشعال فتنة الشارع وركوب موجة الاحتجاجات العنيفة التي تقسم ظهر أكثر من قطر وتدمي يوميات العديد من الشعوب العربية. ولعل أكثر ما يلفت الانتباه على الصعيد الداخلي هو الارتفاع الجنوني للأسعار قبيل وخلال الأيام الأولى من شهر الصيام، فالوعود التي أطلقها وزير التجارة لا أثر لها في الواقع، والحديث عن التحكم في الأسعار وضبط السوق الوطنية يبدو مجرد صيحة في واد سحيق، فالقانون الوحيد الذي يسيطر على الأسواق هو قانون التجار المضاربين الذي يتحكمون في رقاب الناس، ويحولون أيامهم إلى معاناة لا تنتهي، مع العلم أن وعود الحكومة بالسيطرة الأسواق وردع المضاربين، هي أغنية قديمة يسمعها الجزائريون منذ زمان، أغنية هدفها طمأنة المواطنين، لكن تطمينات الحكومة سرعان ما ينكشف زيفها فالمضاربة تمتد إلى كامل أيام شهر رمضان، وتتجاوزه، والعبث بالمستهلكين تحولت إلى قاعدة في الجزائر في ظل فوضى الأسعار وفوضى الأسواق، وفي ظل انتشار مريع للتجارة الموازية في مختلف جهات الوطن، فالأرقام تتحدث عن أكثر من 80 ألف تاجر فوضوي يغزون شوارع مختلف مدن البلاد، ولكل مبرراته في ظل البطالة المستشرية، ويبدو أن الهدنة التي منحتها ولو بشكل رسمي، وزارة الداخلية لهؤلاء البطالين قد ساهم في توسع دائرة التجار الفوضويين وما تحمله من القليل من الايجابيات والكثير من السلبيات على الاقتصاد الوطني وعلى الحياة العامة.