ينظر العمال إلى لقاء الثلاثية على أنه مجرد اجتماع من دون معنى هدفه البحث عن هدنة اجتماعية جديدة تسمح للحكومة بتجاوز الدخول الاجتماعي بسلام، وتمكن المركزية النقابية من الحصول ولو على القليل من العذرية التي تسمح لها بأن تقدم نفسها مستقبلا كممثل للعمال، ويبدو أن الكثير من الأشياء كانت منتظرة من لقاء الثلاثية، ذلك أن الإصلاحات السياسية التي شرع فيها لن تكون كافية لتحقيق سلم اجتماعي دائم يجنب البلد متاهات العنف التي يواجهها أكثر من قطر عربي. لم ترق نتائج الثلاثية إلى مستوى طموحات الجبهة الاجتماعية، رغم ما حققته من أهداف، ولعل أهم ما نتج عن هذا الاجتماع هو رفع الأجر الوطني الأدنى المضمون من 15 إلى 18 ألف دينار، ما سينعكس ايجابيا على بعض الفئات، وفي المقابل رفضت الحكومة تحقيق مطلب المركزية النقابية المتمثل في خفض الضريبة على الدخل الاجتماعي، وردت بشكل ايجابي على مطالب الباترونا التي وعدت بدورها بتوفير ما لا يقل عن 150 ألف منصب شغل سنويا. المركزية النقابية خرجت من لقاء الثلاثية بالنزر اليسير فقط، فلم تستطع أيضا تمرير مطالبها فيما يخص رفع معاشات المتقاعدين. ويبدو أن الثلاثية عجزت على الأقل في إقناع شرائح واسعة من العمال التي كانت تعلق عليها بعض الآمال، ما يعني في النهاية بأن الثلاثية ربما لن تساهم كما أريد لها في خفض التوترات الاجتماعية وقد تلهب الجبهة الاجتماعية مجددا مع الدخول الاجتماعي الجاري، علما أن العديد من القطاعات على غرار قطاع التربية، لوحت بالدخول في إضرابات تحولت في زمن »الثورات المفبركة« إلى أدوات لإلهاب الشارع وتحضير الفتن الكبرى، وهو ما دفع ربما بالأمينة العامة لحزب العمال لويزة حنون إلى القول بأن نتائج الثلاثية غير كافية وأن أغلبها كان في صالح أرباب العمل، واعتبار الزيادة التي أقرتها الحكومة والمتمثلة في ثلاثة آلاف دينار في الأجر الأدنى المضمون غير كافية. ربما تكون الحكومة أمام خيارات مستحيلة، وفي مواجهة التناقضات الصارخة بين مطالب الجبهة الاجتماعية المستمدة من الواقع المعيشي الصعب، خاصة في ظل الزيادات المتواصلة في أسعار بعض المواد الغذائية الأساسية، وبين متطلبات الاقتصاد التي لخصها الخبير الاقتصادي بشير مصيطفى بقوله أن الاقتصاد الوطني لن يتحمل زيادات جديدة في الأجور، فالزيادات في الأجر الأدنى المضمون ستكلف خزينة الدولة ما لا يقل عن 75 مليار دينار وهو رقم كبير جدا، حتى وإن كان السلم الاجتماعي يستحق أكثر من هذا الرقم في ظل التحديات التي تواجهها البلاد والتهديدات الجدية لأمنها واستقرارها. لكن ومهما كانت النتائج التي خرجت بها الثلاثية هناك رسالة أرادت الحكومة والمركزية النقابية والباترونا إيصالها للداخل والخارج معا بأن هناك عملا يجري على قدم وساق للتعاطي ايجابيا مع المطالب الملحة لمختلف الفئات المهنية والاجتماعية، خاصة وأن كل الاحتجاجات التي شهدتها الجزائر منذ ديسمبر من السنة المنصرمة كان لها طابع اجتماعي مهني مرتبط بالأجور، أو طابع اجتماعي له علاقة بفك العزلة وبالشغل والسكن..الخ، وإن كان ذلك لا يعني بتاتا بأن المطالب السياسية غائبا تماما، فالإصلاحات السياسية والدستورية التي أقرتها السلطة، والتي شرع في تنفيذها عبر صدور عدد من مشاريع القوانين التي تمت المصادقة عليها على مستوى مجلس الوزراء، تؤكد كلها بأن صنّاع القرار في البلاد على بينة تامة بما يحيط بالبلد من تحديات، وما ينتظرها من رهانات، وعلى إدراك تام بأن البلد مطالب بأن يتغير بشكل سلمي وسلس، بعيدا عن العنف والفوضى،. لقد عبر حزب جبهة التحرير الوطني على لسان أمينه العام عبد العزيز بلخادم بمناسبة الجامعة الصيفية للحزب التي اختتمت أشغالها نهاية الأسبوع المنصرم عن تأييده وتجنده التام لإنجاح الإصلاحات السياسية التي شرع في تنفيذها، وتناول أمين عام الحزب في اللقاءات التي جمعت إطارات الحزب ومنتخبيه وخصوصا نواب الحزب في الغرفتين استعداد الحزب العتيد للعمل بكل ما يملك من طاقة من أجل إيصال عملية الإصلاح السياسي إلى بر الأمان، كما ألح في المقابل على وجوب التصدي لكل ما يحاك ضد الجزائر واستقرارها، »فالثورات الفيسبوكية« كما وصفها بلخادم هي مؤامرة تندرج ضمن »سايس بيكو« جديدة يجري تنفيذها في العالم العربي، علما أن الأفلان لا يخشى كما قال أمينه العام الإصلاحات التي يقرها أو يطالب بها الشعب الجزائري، لكنه يرفض في المقابل ما أسماه بالديمقراطية المنقولة جوا، في إشارة إلى ما حصل في ليبيا، والتي لا تختلف في الواقع عن الديمقراطية التي تم نقلها على ظهور الدبابات في العراق. ومع تواصل الاشتباكات بالأسلحة الثقيلة بين قوات العقيد معمر القذافي، وعناصر المجلس الانتقالي في سرت وبن وليد وغدامس، تتواصل الحمالات التي تستهدف الجزائر من خلال نشر معلومات غير صحيحة عن دخول الزعيم الليبي المطاح به الأراضي الجزائرية، ودخول الجزائر في مفاوضات مزعومة مع قطر لترتيب تسليم معمر القذافي للمجلس الانتقالي، ويبدو جليا أن أغلب أعضاء المجلس الانتقالي في ليبيا كلفوا بمهمة إشعال النار بين الشعبين الجزائري والليبي، والترتيب لليبيا جديدة، ليبيا معادية للجزائر تكون عبارة عن قاعدة في المستقبل لكل السيناريوهات الجهنمية المرئية أو المخفية التي تستهدف الجزائر في أمنها واستقرارها ووحدتها. وبالعودة إلى الوضع الأمني الداخلي يظهر جليا بأن قوات الجيش والأمن قد شرعت فعلا في المرحلة الهجومية بعد محاولات التصعيد التي شهدتها البلاد منذ منتصف الصائفة، كان أخرها الهجوم بصواريخ »الأر بي جي «على مطار مخصص للمروحيات القتالية بجيجل، فالعملية العسكرية الناجحة التي تنفذها قوات الجيش بغابة الشويشة بزموري شرقي بومرداس، سمحت بالقضاء على عدد كبير من العناصر الإرهابية التابعة لسرية زموري، كما تم استرجاع ما لا يقل عن 40 قنطارا من المواد المتفجرة من داخل المخابئ التي تم اكتشافها، وقد تشير هذه الكميات الكبيرة من المتفجرات إلى حقيقة أن السلاح الليبي والمتفجرات الليبية وصلت فعلا إلى معاقل الإرهاب في شمال الجزائر بعدما تم تداولها على نطاق واسع بعدد من دول جنوب الصحراء الكبرى واستعملت في عمليات لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي بمنطقة الساحل الصحراوي. لقد عاد الوزير الأول أحمد أويحيى خلال الندوة الصحية التي نشطها بجنان الميثاق إلى الجدل الدائر حول العودة المحتملة لنشطاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة إلى النشاط السياسي، ونفى بشكل قاطع هذه العودة التي غذتها أيضا التصريحات الأخيرة لأنور هدام من الولاياتالمتحدةالأمريكية، حيث يقيم منذ 20 سنة، كما أكد أحمد أويحيى كذلك بأنه لا وجود لإرادة لدى السلطات لإقرار عفو شامل عن الإرهابيين، والمؤكد أن ما جاء على لسان أويحيى ينسجم بشكل كلي مع قناعاته التي بقي متشبثا بها منذ منتصف التسعينيات والتي جعلت المراقبين يصنفونه في خانة ما يسمى بالتيار الإستئصالي، لكن لا يمكن اعتبار تصريحات أويحيى قناعة مشتركة لكل صناع القرار في البلاد، فالمطالبين بالسماح بعودة جبهة الإنقاذ المحلة إلى الشرعية موجودون داخل السلطة وهذه حقيقة، وأما الحقيقة الثانية فهي أن هناك رغبة في تطعيم خيار المصالحة في الوقت المناسب بتدابير جديدة تساهم في عودة السلم والقضاء النهائي على الإرهاب، ويعتبر العفو الشامل أحد الخيارات التي يدافع عليها الكثيرون بما في ذلك رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة الذي تبنى هذا الخيار منذ اعتلائه سدة الحكم.