لم يبق إلا بضعة أيام فقط ويطوي العام أيامه وشهوره بعدما ترك العرب بصماتهم القوية فيه كما لم يفعلوا من قبل، وأصبحوا حديث شاشات العالم وقدوة لشعوبه أيضا في كشف مكر الرأسمالية المتوحِّشة وفضح ألاعيبها في استعباد البشرية وقهرها، وجعلوا جهابذة الفكر الليبرالي يعيدون النظر في بناء إستراتيجية جديدة لاحتواء شعوب المعمورة بأشكال جديدة، ويكون الجزائريون- الذين خرجوا محتجِّين في مثل هذه الأيام منذ أكثر من عام على غلاء حاجات بقائهم على الحياة، يطالبون بإعادة تسقيف المواد الغذائية في واحدة من انتفاضاتهم التي يخوضونها بعنف مرة كل عشر سنين تقريبا- قد أسّسوا لانتفاضات الشعوب العربية التي أزالت أسيجة الخوف وأنجزت ما أصبح يُعرَف بالربيع العربي، وانزلقت هذه الشعوب في الزيت الذي صبّه الجزائريون على طريق التحرر إلى قصور الحكم العربي الديكتاتوري منه والثوري وما بينهما، ابتداء من قصر قرطاج الذي لم يجد صاحبه من حيلة تُنجيه من بطش أولئك الذين ترسّب في أنفسهم غضب أكثر من عشرين عاما سوى الهرب إلى السماء، بعدما أُغلِقت في وجهه أبواب أرض أصدقائه وحلفائه، فكاد يحترق مُعلَّقا في طائرته لولا شيمة عربية مازالت بقاياها في بيت رسمي من بيوت آل سعود. بهت الغرب الرسمي والشعبي لهول ما يحدث في العالم العربي انطلاقا من تونس، وهو الذي ظل يراهن على بقاء الصورة النمطية التي وضع فيها الإنسان العربي وسجن نفسه فيها، فالعرب في إطارها قطعان من الحيوانات الناطقة لا تعرف فنّ العيش الحر كما يجهل حكّامها فن الحكم الراشد، وطبقا لهذه الصورة فإن هذا الغرب ظل مطمئنا على أن مصالحه الحيوية هي في مأمن كامل من عاتيات الحساب والمصالح المضادة، ولم يُصدِّق ما رآه بالعين المجرَّدة وعلى المباشر، فهام على وجهه لا يدري ما يصنع، هل يواصل مساندة الحكام الذين آزرهم وثبّتهم في كراسٍ تلهو بها الرياح، رغم عبثهم بكل الشعارات التي يتغنَّى بها، أم يُقلِّب لهم ظهر المِجنّ ويضع أيديه في يد الواقفين الجدد على عتبة الحكم؟ وتاهت به البوصلة واضطربت كأن بها مسًّا من الجنّ، وضاع بين نزعته إلى إرسال ذخائر- للفتك- إلى هذا الحاكم الخائرة قواه تحت عناد ديكتاتوريته، وبين مساندة حذرة للشعوب التي ثارت وهي تحمل نفس شعاراته من ديمقراطية وحقوق إنسان وغيرها، ولم يتبيَّن الطريق إلا بعد دماء كثيرة سالت وأرواح عديدة أُزهِقت وضحايا كُثُر سقطوا، ولكنه- أي الغرب- ظل على مكره القديم فتسلّل إلى قاطرة التحوّل في كل بلد عربي لربح سباق المرحلة. قد يكون الاضطراب الذي ميَّز الانتفاضات أو الثورات أو الانقلابات، سواء تلك التي وضعت أوزارها أو تلك التي مازالت مشتعلة، من الاضطراب الذي أصاب الموقف الرسمي الغربي إزاء ما يحدث، خاصة أن غبار تلك العواصف وصل إلى وول ستريت، مركز قُوة الرأسمالية العالمية وقلبها النابض والتي كانت مؤشِّرا على نهاية التاريخ لدى الذين أرّخوا خطأ لبداية قرن أمريكي طويل جاء على أنقاض الشيوعية التي هوت تحت جدار برلين، ولكن إطالة إسالة الدم العربي في أكثر من بلد، وإبقاء الشعوب في وحل التوترات والانتفاضات والثورات المضادة، وإخراج نُسَخ لنماذج بشرية مُعدَّلة عن تلك التي تم إسقاطها إلى الواجهة كدليل على التغيير الذي تطالب به الشعوب، يؤكِّد أن هناك تسللا خطيرا من أعداء الشعوب يكون تمّ على مستوى منصات الإقلاع، لكثير من الثورات حتى صارت انقلابات وأصبحت في كثير من أوجهها فوضى تُشوِّه تضحيات هذه الشعوب. يحاول المُحنَّطون في فقه تحقيق المزيد من المنافع والمصالح وإنتاج المزيد من المساوئ والمفاسد، أن يُفرمِلوا القاطرة التي انطلقت في بداية هذا العام كلٌّ على طريقته، يؤازرهم في ذلك المتربِّصون المتفاجئون بما حدث، الذين وظَّفوا تكنولوجيتهم العالية في توجيه الريح الوجهة التي ترضيهم، وإحداث ثقوب في جدار المحتجّين على أوضاعهم المزرية، بُغيَة الإبقاء على كل أسباب التخلف قائمة على مستوى الأفراد والمجتمعات والدول، غير أن المؤمنين بحتمية التغيير يكونون هم الآخرون أحدثوا جيوبا في الجدار الموازي، واتَّجهوا بقوّة نحو أهداف الثوار أو المحتجّين أو المنتفضين، ففي الجزائر اخترق الجزائريون نداءات التحريض الداعية إلى الانتحار وتجاوزوا حالة الاحتباس الاجتماعي الناتج عن العقم السياسي، وقد سابق الإصلاحيون الزمن من أجل ترميم الحياة السياسية المتدهورة، وهم يعتقدون أن الانتخابات التشريعية القادمة يجب أن تتطهّر من رجس التزوير المباشر أو المُقنَّع الذي دنّسها في مواعيد كثيرة، كي تكون البوابة الرئيسية التي يدخلون منها إلى التحوّل الحقيقي، وتخطّوا في تونس حاجز الموانع اليومية التي أفرزها وضع تونس ما بعد ابن علي، وفي مصر مازال ميدان التحرير بين مدِّ الثّوار وجزر المجلس العسكري، برغم ما طرأ على الحالة المصرية بفعل الانتخابات البرلمانية التي يتَّفق متابعوها على أنها الأنظف إلى حد الآن، أما في ليبيا التي فرّق الناتو دمها على أبنائها، فإن الهزات الارتدادية ستطيل من عمر أزمتها إلى وقت لن يكون قريبا، في حين لا زال الشعبان اليمني والسوري يواجهان ديكتاتورية الداخل وعناده وتربّص الخارج ومكره، ولكنهما يبدوان مُصِرّيْن على التغيير بأيِّ ثمن، وبذلك يمكننا القول بدون مبالغة إن سنة إحدى عشرة وألفيْن، هي سنة العرب بلا منازع، خاصة بعد أن ركبت الشعوب الريح التي لم يعد يهمها إن كانت خضراء أو حمراء أو ما بينهما من ألوان مختلفة، فالشعب سيقف- مؤقّتا- مع من يعيد له الأمل في المستقبل المُحطَّم، ويبني لأبنائه مرافئ ليست للهربة أو الحرقة، إنما للعودة والتشبّث بالحاضر، الذي هدّه خائنو الأمانة من أدعياء الوطنية والثورية وغيرهما من الشعارات التي كانت جاذبة...