موضوع التعريب يطفو على السطح مرة بعد مرة، ومنذ السنوات الأولى من الاستقلال تقريبا، يتوارى عن الأنظار مدة تطول أو تقصر، لكنه يعاود الظهور، ويأبى المختلفين فيه إلا أن يثيروه من جديد... قد ينزل إلى الأعماق، ويبقى معركة كامنة في الضمائر، ضمير المؤيدين كما في ضمائر المعارضين، وضمير المتطلعين إلى تطبيع البلاد مع تاريخها وقوانينها وواقع حالها في مجمله واحد وإن اختلفت الحرارة بين أفراده، أما المعارضين فليسوا سواء في معارضتهم وعدائهم للعربية، وهم بهذا ضمائر منها الخائف ومنها المنزعج ومنها الحاقد المتآمر... قد يخبو سنا نور المدافعين إذا ظهر لهم ما يدعم نضالهم المرير، قد يتراجعوا إذا خرج قانون أو صدر تصريح من مسؤول يطمئنهم، حتى وان كانوا يدركون أن التصريحات يضج بها الأفق لكثرتها، وأن المراسيم والقوانين تتالت حتى بلغت حد التكديس، وهم يعلمون أن كثرة الباكين حول العربية لم يغنوا عنها شيئا ولو أعجبتهم كثرتهم، ومع ذلك يفرحون فرح الطفل باللعبة تلهيه عن غياب أمه... وقد تعلم أعداء العربية أن يتراجعوا في الظاهر، لعلمهم أن المعركة محسومة لصالحهم في النهاية، تعلموا هذا مع مرور الأيام وتوالي التجارب، وتواصوا بينهم أن اتركوا الآخرين يقولوا فنحن نعمل، وما تغني الأقوال أمام سطوة الواقع وثقل الأعمال، فالبكاء لا يسترد حقا مغتصبا ولا يبرئ صدر مظلوم مهضوم حقه، وقديما قال المتنبي: ومن شر السلاح الأدمع ! و يهمني أن أفصل القول في المعارضين، فهم ليسوا على قلب رجل واحد، ولا يدفعهم في الوقوف في وجه العربية وإعلان العداء لها دافع واحد، غنهم في ذلك طرائق قددا، ومذاهب شتى، منهم الأبرياء، الذين تحجب الشبهات الرؤية السليمة أمامهم، فيتخوفون ويقلقون، لا لكره متأصل في نفوسهم للعربية، ولكن لأنهم أسرى شبهات تثار أمامهم، ومن حق هؤلاء أن يعرفوا الحقيقة، وهؤلاء فريسة فريق آخر يصدر عن كيد وخبث، وليسوا في مثل غفلة هذا الفصيل أو براءته، ولن نتحدث هنا عن ذلك الفصيل الخبيث الذي يخوض معركة بالوكالة عن غيره، بالوكالة عن أعداء الأمة في تحقير أسس شخصيتها وتقويض معالم شخصيتها الحضارية... هذا الصنف على خطورته، لا يمثل إلا شرذمة قليلة من شذاذ الآفاق ممن باع قلبه للشيطان، وهو صنف لا يمكنه أن يقوم إلا إذا استند في عمله على المغرر بهم من الأبرياء ضحايا التضليل والتهويل... ومن أولئك الضحايا من يعادي العربية لأنه رأى حال بعض الداعين إليها، فرأى قوما من الكسالى وسيئ الأخلاق، ممن اتخذ من دعوتهم إلى العربية غطاء يتدثر به ويستر كل عوراته، فينفر من العربية لأنه يخشى أن يتحول المجتمع كله إلى مثل ذلك البائس... ومن الضحايا من خدعوه، فقيل له أن منصبه الذي يشغله لا يتم إلا من خلال الحفاظ على اللسان الأجنبي وأن عليه أن يحفظ هذا الكنز ويورثه لأطفاله، لأنه سر الظفر بالمناصب والترقي فيها، وعليه أن يبقى ممنونا ما عاش لفضل ذلك اللسان الذي هو ولي نعمته... ومن الضحايا من قيل له أن الشعوب الراقية إنما ترقت بفعل ذلك اللسان، وأن من تخلف إنما تخلفه مرده للسان العربي، وهي دعاوى يكذبها التاريخ الذي يشهد للسان العربي بحضوره الحضاري ويكذبها الواقع الذي يشهد أن أمما لغاتها ليست في عظمة اللغة العربية وكانت لغاتها سر نهضتها ومفتاح ترقيها كالكورية واليابانية... ومن الضحايا من خدع فقيل له أن العربية هي منافس الأمازيغية، وأن الاستعمار العربي هو سبب انحسار اللسان الأمازيغي، وقد يمتد الخوض في هذا المسلك إلى اعتبار العرب غزاة كغيرهم يجب أن يخرجوا خارج الحدود، ولو تسأل هؤلاء من هم العرب؟ ومن هم الأمازيغ؟ لتلعثموا ولن يجدوا ما يقولون، أليس الشرفة في بلاد القبائل، مثلا، هم العرب الدعاة، و أليس العبيد "أكلي" هم من جلبوا من خارج المنطقة فأين الأمازيغ، ثم أليست العربية لغة حضارة في كل البلدان التي دخلتها ولم تكن يوما لغة عرق حتى في أيام عز الشعوبية ! والموضوع برمته ألم يكن مفتعلا بعد الاستقلال، فمن قبل كان الجزائريون متحدين على تلك المبادئ العامة التي تحاربها فرنسا، فلقد كان كل ما تحاربه فرنسا وتعمل للقضاء عليه منكرا، كان الجزائري يغامر بفلذة كبده ليتعلم العربية، فيضيق من قوت عياله ويدفع بابنه إلى المجهول ولكن يستلذ كل ذلك لأن الهدف كان أسمى، وهل كان معهد ابن باديس إلا محضنا لأبناء منطقة القبائل؟ فلنكن صرحاء، إنه عمل الأكاديمية البربرية في باريس بعد الاستقلال، وهو حقد الآباء البيض وقد رؤوا أن جهدهم يكاد يضيع سدى وسعي سنين عمرهم يتساقط كأوراق الخريف، من هنا كان العداء للعربية كمفردة للعداء للحضارة الإسلامية، ومن هنا لا يخفي كبار دعاتهم أن المشكلة في الإسلام وما يعرف بالحضارة الإسلامية، حسب قولهم، فلولا ذلك لسهل القضاء على العربية التي لا تعدو كونها كأوراق الشجرة إذا قطعت جذورها يبست وتساقطت وأصبحت ذكرى بعد خضرة ونضرة...