الدستور وثيقة مرجعية سامية، تعد القانون الأساسي الذي يكفل الحقوق، والحريات الفردية والجماعية، ويصون حرية اختيار الشعب، ويضفي الشرعية على ممارسة السلطة، ويحدد المبادئ الأساسية التي تحكم المجتمع، وينظم العلاقة ما بين مؤسسات وهيئات السلطات العمومية ورقابة أعمالها، غايته السامية، ضمان استمرار واستقرار الدولة، وأمن المجتمع، وسلامته، وازدهاره، وتوفير كل أشكال الحماية القانونية لبسط سلطان الشرعية، وهكذا، فإن الدستور ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة أو أداة شرعية قانونية ضرورية، لكفالة الحماية الواجبة لممارسة السلطة، ضمن أطر الشرعية، بما يوفر للأمة الأمن والاستقرار، والتطور، والازدهار. إنه باستقراء وقائع التاريخ واستلهامها، لا نجد أية حضارة ازدهرت وسادت، إلا في ظل توفر شروط الاستقرار، والأمن، والازدهار الاقتصادي، فالفتن، والاضطرابات السياسية والأمنية لا تفتح أي مجال، ولا تمنح أية إمكانية للبناء والتشييد، أو إقامة أية منشآت أو منجزات. لقد استرجعت بلادنا استقلالها، وافتكت سيادتها في سنة 1962، وصادقت على دستورها الأول سنة 1963، وتولى رئاستها الأولى الرئيس أحمد بن بلة، الذي لم يدم حكمه أزيد من عامين ونصف، وأطيح به في 19 جوان 1965، ولذلك وبالنظر لقصر أمد عهده والاضطرابات التي شهدتها فترة ولايته، لم يحقق أشياء ذات بال سواء في العمران، أو البنى التحتية، أو المنشآت الثقافية والجامعية والدينية أو الصناعية، وهو لا يلام على ذلك لقصر المدة، ولصعوبة الظرف الذي أتى فيه، لكن الرئيس بومدين، الذي امتد عهده حوالي 13 سنة، ذاع صيته، واشتهر اسمه، ودام ذكره، لأنه أنجز الكثير من المشاريع الضخمة وأعطى للجزائر بعدا دوليا معتبرا، مكنها من تبوأ مكانة هامة في الساحة الدولية، وما كانت تلك المكتسبات لتتم، لولا الاستقرار الذي تحقق في عهده، وهذا الاستقرار ما كان، ليحدث لولا المدة الزمنية المعتبرة، التي استغرقها حكمه، وهو ما أتاح للجزائر إقامة بنى تحتية وبناء قاعدة اقتصادية وصناعية متينة، ونفس الأمر ينطبق على عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي مهما قيل في تقييم عهدته، إلا أنه استطاع أن يحقق كثيرا من المنجزات. إن الفتنة الكبرى التي اضطرم أوارها إثر أحداث أكتوبر، أدخلت الجزائر في دوامة من العنف والفوضى، أفقدتها استقرارها، وحرمتها من نعمة الأمن، ودفء الهدوء والسكينة، فتعاقب في فترة وجيزة لا يتعدى أمدها 7 سنوات 3 رؤساء، أولهم اغتيل بالرصاص في قاعة غاصة بالحضور على مرأى ومشاهدة كافة الجزائريين والعالم كله، وثانيهم لم يعمر سوى عام ونصف، أما الثالث فقد استنفذ كل طاقاته في مواجهة الإرهاب والتصدي لمجازره الوحشية، والاستماتة في الدفاع عن كيان الدولة ووجودها، لإنقاذها من الانهيار والتلاشي. لقد بدأت الجزائر تسترد عافيتها بالتدريج ورويدا، رويدا، بفضل السياسة الرشيدة التي انتهجها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي التزم ببرنامجه الانتخابي بكثير من الإخلاص والوفاء، فقد كانت النقطة الأولى في برنامجه، إخماد نار الفتنة، وإطفاء لهيبها، أما المسألة الثانية فكانت إنعاش الاقتصاد الوطني، أما الثالثة فتخص استرجاع مكانة الجزائر وهيبتها في الساحة الدولية. إن الرئيس بوتفليقة، وبكثير من الوفاء، تقيد بمقتضيات برنامجه الانتخابي الذي أعلنه أمام الشعب الجزائري في سنة 1999، وشرع في تنفيذه طبقا للأولويات المرتبة، وهكذا أعطى العناية اللازمة لمعالجة الأزمة العميقة المتعددة الأبعاد والجوانب، التي كادت أن تعصف بالبلاد، وبفضل سياسة الوئام المدني وصرامة سيف الحجاج، التي انتهجها، بدأت الجزائر تتعافى، وتتشافى. وفي حملته للعهدة الثانية في سنة 2004 أعلن، أن برنامجه الانتخابي هو استكمال ما بدأه في سنة 1999، وهكذا ظل على الدوام وفيا لتعهداته، ومنح الأولوية باستمرار لإخماد نار الفتنة، واستفتى الشعب حول ميثاق السلم والمصالحة، في الوقت الذي يؤكد فيه أن حد السيف سيطال رقاب من يرفض العودة إلى حظيرة المجتمع، والرجوع إلى جادة الصواب. لقد تواصل الجهد في البناء والتشييد ودعم النمو الاقتصادي، واثبات وجود الجزائر في كافة المنابر والمحافل الدولية، وبفضل سياسة الرئيس بوتفليقة، تكسرت شوكة الإرهاب واندحرت فلوله، وعاد الآلاف منهم إلى ديارهم، بعد أن وضعوا أسلحتهم وسلموها، وأنتعش الاقتصاد، وتخلصت الجزائر من المديونية، التي أذلتها وقهرتها لعقود من الزمن، وذاق الجزائريون نعمة الاستقرار، والأمن من الخوف والفزع والترويع، ولست في حاجة إلى سرد ما تم من إنجازات في مختلف المجالات. والآن ونحن على مقربة من نهاية العهدة الثانية للرئيس بوتفليقة، ولا يفصلنا عن ذلك سوى سبعة أشهر، ودستورنا بأحكامه الحالية لا يسمح، إلا بعهدتين اثنتين فقط، فلم لا نتدارس أحوالنا، ونجتهد في الدراسة، ونعمل الرأي، ونتدبر أمورنا، ونقدرها أحسن تقدير، وننظر نظرة استشرافية استسباقية ثاقبة، عميقة، بعيدة المدى، واضعين نصب أعيننا المصلحة العليا للجزائر وحدها، ولا نكتفي بظاهر نص المادة 74 من الدستور كما هي مصاغة حاليا، لنقرر أن ولاية الرئيس بوتفليقة تنتهي بانتهاء عهدته الثانية؟ إن الدستور في أصله مشروع أحكام وبنود قدمته السلطة القائمة أمام الشعب للاستفتاء وأن الشعب أقر المشروع المعروض عليه، بالتصويت عليه إيجابيا، فأضحى دستورا ملزما. في رأيي قبل أن نتحدث عن جدوى تعديل الدستور من عدمها، ينبغي أن نمعن النظر، ونجيل البصر في الساحة السياسية الوطنية، للتأمل مليا في تركيبتها ومكوناتها واستعراض الشخصيات السياسية الوطنية، والقيادات الحزبية التي يمكن أن تشكل بديلا عن الرئيس بوتفليقة لاستلام دفة الحكم وقيادة البلاد في السنوات القادمة، ومواصلة انجاز المشاريع التنموية بنفس الوتيرة، ودعم الاستقرار وتحسين ظروف الأمن وفرض السكينة والهدوء. مبدئيا أتحفظ عن وعي عن مقولة أن أمة قوامها 35 مليون جزائري ليست عاقرا، لأن تنجب زعيما جديرا بقيادتها نحو الأمان والازدهار. إنني أحترم وأبجل كل جزائرية وجزائري، وأؤمن بعبقرية شعبي وعظمة وعطاء أمتي، لكني في الوقت نفسه أؤمن إيمانا مطلقا، بأن الزعامات والقيادات في كل بلدان العالم، تتكون وتبرز وتتفجر طاقاتها ضمن الطبقة السياسية الوطنية، التي تتألف بطبيعة الحال من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، ولا أتصور رئيسا مقبلا للجزائر يكون مغمورا أو نكرة مجهولا في الساحة السياسية، يبرز هكذا فجأة وبدون مؤهلات سياسية، من غير أن يكون له امتداد شعبي، أو بعد وطني. وتوافقا مع قناعاتي هذه، فإنني أرى وبموضوعية كاملة، أنه وبعد أن استعرضت رجالات الطبقة السياسية الوطنية جميعا، وأنا أكن لهم جميعا كل الاحترام والتقدير، وحكمي هذا لا ينتقص شيئا من قيمتهم أو وطنيتهم، أو إخلاصهم، ولا يقلل من شأنهم على الاطلاق، لم أجد ضمنهم بكل صراحة من يخلف في الظرف الراهن الرئيس بوتفليقة، أو يحل محله، أو يستقطب الجزائريين من حوله كما، استقطبهم، أو يحوز المؤهلات والخبرة، والدهاء والتجربة والحنكة، التي اكتسبها، فلم نحرم شعبنا من خدماته؟ لن أخوض في الجدل الفقهي المتعلق بتضاد تقييد الولاية بعهدتين لروح الديمقراطية، طالما أن الشعب هو الذي يمنح السلطة، وهو الذي يمنعها، لكن وبالنسبة لواقع الجزائر وظروفها الراهنة المتصلة بتداعيات المأساة التي مرت بها، اعتبر أن فترة 10 سنوات، غير كافية لتثبيت الاستقرار، وبسط سلطان الأمن، واستتباب السلم، وإنعاش الاقتصاد، بالنظر لعمق الأزمة التي مرت بها بلادنا، وحجم الأضرار التي لحقت بها من جرائها والتداعيات التي خلفتها على كافة الأصعدة، وبالنظر من جهة أخرى إلى أن الإرهاب أضحى ظاهرة دولية، عجزت حتى الدول العظمى عن دحره والقضاء عليه، والجزائر مصنفة كهدف أول ضمن أهداف الإرهاب الدولي. من أجل هذا يتعين في نظري، الإقدام دون تردد على المبادرة بتعديل الدستور، ومراجعة المادة74 منه، التي تحدد الولاية الرئاسية بعهدتين، وفتحها، بما يتيح للرئيس بوتفليقة الترشح لعهدة ثالثة لاستكمال المجهود الذي بذله في تحقيق الاستقرار واستعادة السلم، واستتباب الأمن، وإنعاش الاقتصاد. إن الأمم لا تتطور ولا تزدهر، وعبقريات أبنائها لا تتفتح أو تتفتق، واقتصادها لا ينتعش أو ينمو، إلا في ظل الاستقرار السياسي والأمني، واستقرئوا التاريخ واستنطقوه، لتجدوا أن كل إنجاز ذي بال، إنما شيد صرحه، وأعلي بناؤه، بفضل الاستقرار، اللهم أرزق بلدنا الاستقرار، وأدم علينا نعمته، وأطعم شعبنا من جوع، وآمنه من خوف.