وقّعت العراق المعاهدة الأمنية واتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الولاياتالمتحدة، الحدث أثار جدلا داخليا ولا يزال، ويثير تساؤلات خارجية•• نقاط ظل كثيرة ومبهمة تصحب الواقعة•• هل هي عودة لحلف بغداد في صيغة جديدة؟•• والذين لا يعرفون بعض الوقائع التاريخية أن الحلف المذكور هو ذلك التكتل العسكري الذي أقامته الولاياتالمتحدة وبريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية من القرن الماضي•• وكان يشمل الباكستان وإيران والعراق وتركيا تحت إسم "الحلف المركزي" وينسب إلى بغداد لأن معاهدة إنشائه وقعت في بغداد أيام الملكية•• ذلك كان جزء من الطوق العسكري الذي أقامه الغرب حينئذ لمحاصرة الاتحاد السوفياتي ومراقبته، وكان يندرج ضمن سياسة الاستقطاب التي ميزت عهد الحرب الباردة•• وسقط ذلك الحلف سنة 1958 إثر انقلاب عسكري بمفهوم هذا العصر، والثورة بمفهوم ذلك الزمن بقيادة عبد الكريم قاسم، وهو ما أدى إلى زوال الملكية من العراق•• وبعيدا عن المظاهر الدموية التي صاحبت العملية، فإن تلك الحركة أتت في سياق حيوية عربية اتسمت بها خمسينات القرن الماضي وكانت الثورة الجزائرية حينئذ هي روح تلك الحيوية• يدور الزمن دورته، ومن عجيب الصدف، أو عن حساب مقصود تأتي المعاهدة الأمريكية - العراقية بعد نصف قرن بالضبط من سقوط حلف بغداد أو الحلف المركزي، ويعود العراق ليصبح جزء أو هو محور الارتكاز الأمريكي في المنطقة وتصبح إيران التي كانت تشغل هذه المكانة قبل الثمانينات من القرن الماضي في الصف المعاكس أو المضاد، على الأقل في الوقت الراهن• ليس من باب التحامل أو من باب التشويه على السلطات العراقية الحالية التذكير بمثل هذه الأمور•• لكن حين يقر بوش وهو على أعتاب مغادرة البيت الأبيض أن قراره الحرب على العراق كان خطأ لأنه اعتمد على معلومات استخباراتية خاطئة نسفا لكل ما نتج عن ذلك الغزو الذي أقال دولة من الوجود ولم يسقط النظام فحسب• وبوش حين يقر بهذه الحقيقة التي كان كل العالم يدركها ويعتذر للشعب الأمريكي فإنه من حقنا ومن حق العراقيين في المقام الأول اعتبار ما قام به جريمة في حق العراقيين وخرقا للقانون الدولي في سابقة خطيرة الأولى من نوعها بعد الحرب الثانية بهذا الحجم تتساوى وواقعة احتلال تشيكوسلوفاكيا من قبل الجيش النازي• كل الخليج، أو بالأحرى "الخليج المفيد" تحت النفوذ الأمريكي منذ نهاية الحرب الثانية•• فقط العراق كان خارج هذا الحيز، وقد تكون الأنظمة المتعاقبة عليه سيئة أو دموية أو ديكتاتورية، وهي مآخذ أمريكية على هذا البلد•• إلا أن تمرده الدائم على الرضوخ للهيمنة الأمريكية والطموحات "الزائدة" في التحديث وفي التصنيع وأساسا يتعلق بالتجهيزات العسكرية وتكنولوجيا الفضاء والصواريخ جعلته تحت الرقابة الشديدة لأعين واشنطن وللغرب عموما باعتبار أن ذلك يهدد التوازن في المنطقة•• والتوازن في المفهوم الأمريكي هو أن تكون إسرائيل دوما هي المسيطرة عسكريا ولا يجوز بأي حال من الأحوال الإخلال بهذا التوازن• وبدأ نصب الأفخاخ للعراق منذ السبعينات ويبدو أن عدم تقدير العواقب والتسرع وانعدام أفق استراتيجي متأن لنظام الرئيس السابق صدام حسين، قد ساعد من حيث لا يدري الإدارة الأمريكية على إحكام الكماشة على هذا البلد وإنهاكه•• وضمن هذا السياق، فإن الإلغاء من جانب العراق لاتفاقية الجزائر سنة 1975 مع إيران كانت تصرفا أخرقا لأنها لم تؤد إلى إحراز نصر حاسم على إيران خلال حرب الثماني سنوات، ولكن أنهكت العراق من جهة وأفلسه ماليا، ومن جهة أخرى أظهرته لكل البلدان الخليجية المحسوبة على أمريكا كأكبر تهديد لوجودها وبقائها، وكانت واقعة غزو دولة الكويت واحتلالها التصرف الأرعن القاتل•• إنها الدعوة لواشنطن للتدخل•• إنها المبرر الذي جعل نظام صدام حسين يعزل نفسه عربيا ودوليا• تلكم بعض الوقائع•• وتلكم بعض الأحداث المتداخلة المتناقضة كما تبدو•• لكن في النهاية أدت إلى تجسيد استراتيجية أمريكية كانت مجرد احتمالات وتوقعات للسيطرة على بلد ذي أهمية استراتيجية قصوى، وذي طاقات وثروات وأيضا إمكيانيات بشرية من الاطارات العلمية إن لم يتم احتوائها فلابد من تصفيتها واغتيال النخب العراقية جزء من هذه الخطة وإسرائيل هي المستفيد الأول من هذا، وهناك فرقا خاصة مهمتها اصطياد علماء العراق، وهذا موضوع آخر• •• وعودة إلى المعاهدة الأمنية التي يمكن القول أنها إخراج محبوك للتورط الأمريكي الذي أصبح مكلفا وغير شعبي وسط المجتمع الأمريكي وكذا صيته السيء لدى المجتمع الدولي، لكن ماذا تقدم للعراق؟ بعيدا عن المبررات الرسمية، وبعيدا عن المواقف المتباينة لمختلف القوى السياسية والدينية المذهبية والطائفية التي أمست سمة الواقع العراقي اليوم، فإن هذا التقنين الشرعي المحلي لوجود قوة عسكرية لدولة غازية سيجعل منها الحكم الأساسي الذي يشرف على فض النزاعات والصراعات المحلية التي تزداد تناقضاتها بين زمر ذات أفق محدود لا يتعدى الأعراق والملل والنحل التي أصبحت تشكل فسيفساء العراق اليوم• حق السيادة العراقية التي يزعم المؤيدون للاتفاقية أنها ستستعاد بفضل هذا التطور الجديد فإن الواقع يكذب هذه الادعاءات، فهناك مستوى لا يمكن تجاوزه حين يتعلق الأمر بالممارسة الديبلوماسية والعسكرية إذ لابد من التشاور مع الأمريكيين، كما أن القواعد والتواجد العسكري الأمريكي لا يخضعان للقانون العراقي، ومن ثمة فإن التحركات العسكرية للجيش الأمريكي يمكن أن تشمل تهديدا للدول الجارة، رغم التطمينات العراقية الرسمية• الأخطار التي تواجه العراق ستظل هي نفسها•• والأمر هنا يتعلق بالطائفية والعرقية التي أمست أساس نظام هش بني على أساس الولاء المذهبي والعرقي•• وليس الانتماء لوطن•• وهكذا فإن تنامي المليشيات الحزبية والعشائرية وتعدد مراكز القرار في مختلف الهيآت هي في النهاية بذرة متنامية لاستمرار التطاحن والتباغض وتراكم الأحقاد التي يمكن القول، مع الأسف، أنها تنمو باستمرار•• هل من غد للعراق•• وهل لا يأتي يوم في المستقبل المنظور يصبح فيه العراق، أعراق؟؟ سؤال رهيب نتمنى أن لا تحدث وقائعه••