سألت نفسي، ما القيمة التاريخية أو الفكرية لاتحاد الكتاب الجزائريين، لكي يبقى مثارا للجدل، وهيئة يتجاذب الوصاية عليها أكثر من طرف؟ ورحت ارجع البصر في كلمات هذا العنوان، اتحاد الكتاب الجزائريين، لعلي أرى فيه ما يغيب عن أمثالي، فأرتد إليَّ البصر وهو حسير، إذ لم أقف إلا على كلمات رصفت في زمن غير هذا الزمن، وتضمنت مدلولات مضى رجالها، وانقضت سنونها، وتذكرت قول الشاعر: مرت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيام ثم انثنت أيام هجر بعدها فكأنها من طولها أعوام ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام ثم رحت أقلب بين ثلمات دماغي، لعلي أرى واقعا لحال هذا الاتحاد، يغري أهل الخير بأن يسابقوا فيه، ويتنافسوا في تحقيق المجد من خلاله، فالكتاب هم أعلم الناس أن عمر الإنسان لا يقاس بالدقائق والساعات، ولا بعدد الأيام والشهور، فتلك حياة نباتية كما يقول أهل الطب، أما الحياة التي تورث الإنسان عمرا يتجاوز عمره، وتجعله يقهر عامل الفناء المحدود بالزمن، فذلك يتأتى من باب الأعمال المخلدة والمواقف الكبيرة، والقلم بين أنامل الكاتب أحد مفاتيح هذا الباب، فبعد أن تبلى الجماجم ويسحقها تراب الأرض وحشراتها، تقم تخطب في الأجيال، تنشر قيم الجمال والخير.. لكن انحسار البصر لم يكن أكبر من حسرة الدماغ، ولم أقف في واقع الاتحاد الماثل أمامي على شيء من هذه المعاني، ومادة "اتحاد" نحتت في زمن كان شعاره إعلاء مادة (و.ح. د)، فمنها يصاغ كل شيء، والتفكير في غيرها، لا يعني إلا العزلة والوحدة، فكان الخيار المتاح بين وحدة اختيارية، تحرم صاحبها من المشاركة والحركة في دنيا الناس، أو الانضمام إلى اتحاد من تلك الاتحادات. لكن لاتحاد الكتاب خصوصيته، هو غير تلك الاتحادات الأخرى، هو غير اتحاد النساء، أو اتحاد العمال، أو اتحاد الفلاحين، أو اتحاد المهاجرين، أو اتحاد الفنانين... لأن الأصل في الكتاب الاختلاف، وحتى لو حدث التوافق في الرأي وجب التمايز في العرض، وكلما كان خط الانحراف كبيرا بين الكتاب، كانت الحياة ثرة غنية، فيها الجدل الذي يدفع للحراك، والتمايز الذي يحرض على التنافس، أما اتحاد الكتاب فلا يعني إلا الرتابة، والمذاق الواحد والرائحة الواحدة واللون الواحد، وهو بالضرورة يقصي غيره، ولن يشفع للمخالف عقل أفلاطون أو قريحة المتنبي أو نثر الجاحظ ليكون كاتبا. كان وقتئذ يعد كاتبا تقدميا من يصف ماخورا، أو يتفنن في نقل حياة الشذوذ بكلمات عريانة، وإن غاب الخيال والجمال، وإن فقدت ظلال الإبداع والفن، لكن ذلك الزمن ولى اليوم، فعصر الصورة التي تقدم ما كان بالأمس محظورا كحظر السلاح، قد ترك أدب التقدميين في العراء، ومعه ولى منطق المعبر الضيق الوحيد، وانفتحت السماء إلى حد اختلطت معه النجوم بالغبار، فهذا عصر تدفقت فيه المعلومات، وقل فيه العلم والمعرفة، حدث فيه التراكم والتكديس، وتراجعت مقاييس الجودة والتمييز، تدفق الإنتاج إلى حد التخمة، وفقد الذوق إلى حد الإسفاف.. هذا عصر كثر فيه الكتاب والمنتحلون، وقل الأدباء والمبدعون، تنوعت منابر النشر ووسائل الاتصال، وقل القراء والمتابعون، لقد ولى ذلك الزمن الذي يقطع فيه الرجل أو المرأة المسافات الطويلة بحثا عن مقال لكاتب مفضل في صحيفة، أو كتاب يضم ديوان شعر أو رواية، و قد يعجب من تخبره أنك ما زلت تقرأ وتطالع، وينظر إليك مشدوها إذا أخبرته أن فلان كتب ما لا يليق، وتزيد حيرته إن أخبرته أنك تنوي الرد على مقال معين، فمن يستطيع اليوم التمييز بين ما هو معروض؟ ومن يستطيع تمييز الغث من السمين؟ وأين الملكات التي تفرز التبر من التراب في عالم الكتابة، والشعر من الشعير بين مدعي نظم القوافي؟ في ما مضى، كان بإمكان ناقد أن يسرع من بروز موهبة حقيقية أو مزيفة، وكان بالإمكان أن يخترق صف المبدعين دعي، يكفي أن يتبناه كاتب مشهور بعد أن يقبض الثمن، ومثال ذلك ما رواه أنيس منصور في مقال نشرته صحيفة "الشرق الأوسط"، اختار له عنوان: "الثلاثة يحبونها ويلغون أنفسهم!"، وملخصه أنه وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، كانوا في بيروت، أمام حمام السباحة في فندق فينقيا، والزمن صيف، وكانت البنات الجميلات يرحن ويجئن، ثم جاءت واحدة، ونظرت وابتسمت وجلست وطال جلوسها ولقاؤها يوما بعد يوم، وصارت صديقة لهم. وبرقت في أذهانهم فكرة، فقد اهتدوا إلى قصة قصيرة ناقشوها، واتفقوا أن يكتبوها، يوسف السباعي يبدأ بكتابة ثلثها الأول وإحسان يكتب الثاني وأنيس يكملها، واتفقوا ألا يكتبوا أسماءهم عليها وإنما يكتب اسم هذه السيدة، وأهدوا الرواية إلى صديقتهم، وقبلتها سعيدة شاكرة.. وأقامت حفلة بهذه المناسبة، وظهر الكتاب في لغات مختلفة، وبسبب هذه الرواية أصبحت أديبة مرموقة..! واذكر أنني كتبت تعليقا على هذا المقال نشر في الصحيفة ذاتها، جاء فيه "شكرا لهذا الفتح في مجال (البوح) الأدبي، فأنا أدرك أن كثيرا من الأسماء التي تعج بها سماؤنا الأدبية في الوطن العربي، والنسوية خاصة، هي أشبه بقصة هذه الأديبة، وهي أشبه بالعملات المغشوشة التي لا يمكن أن تنصرف إلا في الأسواق المعتمة حتى لا يتبين أمرها.. وبعد، بقي سؤالي حائرا دون جواب، ما سر هذا اتحاد الكتاب هذا حتى يشتد حوله الجدل، وأنا لا أجازف بعرض ما هو معروف، فالكلام في الأمور الواضحة، يشبه الكلام الغامض الذي لا يفهم، فكلاهما فيه احتقار للقراء أنزه نفسي عنه، وأجل عقول من يقرأ ما أكتب عن ذكره، كما لا أدعي أنني أحطت بما لم يحط به غيري علما، وسأكون شاكرا لكل من له إفادة في هذا الموضوع.