سألت جاري الحانوتي عن السبب الكامن وراء عملية التحليق المتواصلة لفاكهة الموز ورفضها النزول من جديد إلى أسعار معقولة بعض الشيء، فأجابني بأن تصرف الموز هو عين الحكمة والدهاء، فلا يعقل أن يظل في مكانه وقد صارت البطاطا في محاذاته تماما بعد الارتفاع الجنوني الذي شهدته أسعارها. خضّار في سوق شعبي أخبرني أنه يحتاط قبل أن يعلن أسعار بعض الخضر الأساسية لكبار السنّ، ويسأل زبونه أولا، شيخا أو شيخة، إن كان يعاني من ارتفاع ضغط الدم أو داء السكري، حتى لا يتسبب له في تفاقم حالته أو ازدياد أعراض مرضه وهو يعرض أمامه أسعارا خيالية لخضروات عادية لا غنى عنها في أبسط مطابخ البيوت الجزائرية. البطاطا وما أدراك ما البطاطا التي صارت تصنع عناوين كبيرة في الصحافة الوطنية، وتفرض نفسها في كل مكان حتى على الحملة الانتخابية الرئاسية.. إنها بهذه الأهمية والخطورة الآن.. لكن الأصل أن تكون هي ومشاكل أخرى في الطريق نحو الانقراض والانسحاب بهدوء تام من حياة المواطن الجزائري، ليهتم بقضايا أكبر ويصارع تحديات أخرى ترتبط بآفاق المستقبل الواسع والسير جنبا إلى جنب مع الشعوب المتقدمة. ومن جانب آخر، وعندما ننظر بواقعية نقول لأنفسنا: لا يمكن لعاقل أن ينكر أهمية ووجاهة موضوع البطاطا والمواد الغذائية الأساسية.. لكن الأصل أيضا والحقيقة المرّة أننا مدعوون جميعا، نحن معاشر الجزائريين والجزائريات، إلى الإحساس بالخجل من أنفسنا وصورتنا بين جيراننا الأقربين وبقية خلق الله في هذه الأرض التي صارت متقاربة في أخبارها يتداولها القاصي والداني على حد سواء، فسوق المعلومات مفتوح وهذه الشبكة العنكبوتية العجيبة الغريبة وتلك الفضائيات لم تترك خصوصية لأحد، ولم يعد بالإمكان إخفاء أشعة الشمس بغربال مهما كان حجمه ولونه وزينته والأصوات المنبعثة منه. لماذا هذا الإحساس بالخجل؟.. لأننا قد نستوعب أزمة بطاطا في بلاد لم تعرف نعمة المساحات الشاسعة والأراضي الخضراء الواسعة، أما في الجزائر فلا.. فقد أنعم الخالق علينا بنعمة الأرض الزراعية جنوبا وشمالا، تلالا وصحارى، وزادنا عليها نعمة البترول والغاز وبقية المعادن التي يزخر بها باطن أرضنا المعطاء، ما تم كشفه وما لم تصل إليه أيدينا بعد. حجم الخيرات والبركات التي تنعم بها بلادنا، وأعداد الكفاءات والطاقات البشرية بين جميع فئات الشعب، والسنوات الطويلة التي أعقبت خروج المستعمر... كلٌ ذلك يشكل من الحوافز ما يكفي لأن تكون البرامج الانتخابية المعروضة على الناخب بعيدة كل البعد عن مشكلة الغذاء والمأوى، فتلك أشياء من التاريخ وتُذكر فقط كأمثلة على إنجازات تمّت.. وبدل عنها يكون التنافس في قضايا أرقى وأعلى، وربما يكون بينها الحديث عن ولوج عالم الفضاء وإطلاق قمر صناعي على غرار دول أخرى أقل منا قوة وثروة. يتوقع محللون ومتابعون أن تكون نسبة المشاركة المعلنة بعد الانتخابات عالية، والمترشح الأوفر حظا، حسب ما ظهر في حملته الانتخابية، لمّح أكثر من مرة أنه يريد مشاركة كثيفة وبالتالي لا يرغب في أي فوز، بل ذلك النصر المظفر الذي يتحقق بنسبة تفويض مرتفعة، حتى يتمكن من إكمال ما بدأ من مشاريع، وتجسيد ما بقي في جعبته من مخططات وأفكار. والحقيقة الساطعة أن الطبقات الشعبية المحرومة تنتظر بعد الانتخابات انفراجا عاجلا ولو بقدر ما، وتنتظر بعد ذلك برنامجا طموحا يحقق لها الحد المعقول من العيش الكريم، ويجعل من رغيف الخبز وكيس الحليب وسلة الخضار أمرا متاحا للجميع، وليتنافس الناس بعد ذلك في الكماليات كل حسب عمله وجهده وسط أجواء نظيفة عماد مسيرتها تكافؤ الفرص، وحادي الجميع فيها "الكل سواسية أمام القانون". بعد التفويض القادم ننتظر أن تبدأ مرحلة الجرأة في معالجة جميع الملفات العالقة والقضايا المؤجلة، وأن تكون الأولوية للوطن والوطن وحده، أولوية لا مجال فيها لأي توازنات على حساب الشعب مهما كانت المبررات التي تقف وراءها. وبعد التفويض القادم نتوقع أن نرى ردودا عملية واقعية على بعض الأحزاب التي أدمنت المعارضة والمقاطعة، لأسباب عديدة تظهر مرة وتلتبس مرات عديدة، تبدو مقنعة في بعض صورها وقوالبها ثم سرعان ما ترشح عنها "أعراض" وأهداف ضيقة ودعاوى جهوية وعرقية، وحتى علاقات وامتدادات في عواصم ما وراء البحار. ففي هذه الانتخابات بالتحديد أثار "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" عددا من القضايا الحساسة وضرب على وتر "التعددية السياسية والنقابية وحقوق الإنسان وهوية وطنية مطابقة لتاريخ بلادنا وعدالة في خدمة الشعب، وبشكل خاص وقف التلاعب بذاكرة الشهداء".. على حد تعبير السيد سعيد سعدي رئيس الحزب قبل أيام قليلة.. والمطلوب بعد أي تفويض شعبي قوي أن تقوم الجهات التي يهمها الأمر بمحو آثار جميع مبررات السيد سعدي وأمثاله، وأن يرى الشعب، لا أن يسمع، تحولات عملية في جميع المجالات التي تنسج حولها الجهات المعارضة خيوطها باستمرار.