أطفال كثيرون تختلف قصصهم وتتشابه فصول معاناتهم، وكلهم بشكل أو بآخر تنازل عن طفولته مكرها، وتحمل هموم الدنيا قبل آوانها ليسد أفواها جائعة تنتظره آخر الليل" أمه ،أبوه المعاق، أخوه الصغير و أخته الرضيعة " بما حصده من مفرغة واد السمار وجادت به عربات "النات كوم" في مشهد مأساوي يفوق ما نقرأه في كتاب "البؤساء" لكاتبه الشهير "فيكتور هيغو" . كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا عندما ووقفنا أمام بوابة المفرغة العمومية بواد السمار أو " مملكة الفقراء" إلا أننا لم نشا الدخول عبرها حتى لا نثير الانتباه وفضلنا الولوج عبر إحدى المداخل المفتوحة لأننا كنا نعلم مسبقا بان الأمر لن يكون سهلا لاختراق حدود هذه المستعمرة الواقعة شرق العاصمة والقريبة من مطار هواري بومدين لاسيما وأننا لم نكن نحمل معنا ترخيصا لدخولها حيث كانت غايتنا إجراء روبورتاجا موضوعه يدور حول واقع الطفولة في الجزائر، وذلك بعد أن اخترنا استطلاع هذا الواقع من أصعب الأماكن وأكثرها خطورة خاصة وانه قد تبادر إلى مسامعنا تلك المعاناة أو بالأحرى المأساة التي يعيشها أطفال في سن الزهور بين أكياس النفايات وشاحنات رمي القمامات في جو اقل ما يقال عنه انه مأساوي يبحثون بين ثناياها عما خف وزنه وغلى ثمنه علهم يحصدون ما يسد الرمق غير مبالين بما يحدق بهم من أخطار. في مفرغة واد السمار تتنازل البراءة عن طفولتها بدايتنا مع هذه المغامرة كانت موفقة وذلك بعد أن تخطينا أول عقبة كانت ستصادفنا في مهمتنا هذه وهي أن يعترض حراس البوابة سبيلنا، وأول ما لمحناه بضعة أطفال ورهط من الشباب كانوا مجتمعين حول أكياس لنفايات حديدية وبلاستيكية وأخرى للألمنيوم، كانوا قد جمعوها ولان هدف مهمتنا كان واضحا ومحددا وهو أن نستفسر عن الظروف التي جاءت بهم إلى هذا المكان الذي تضيع فيه كرامة الإنسان ولا يوجد فيه أي معنى للطفولة، حاولنا التقرب من احد الأطفال الذي كان يحمل على ظهره كيسا فيه بعض ما جادت به شاحنات النفايات انحنى معه ظهره النحيل بعد أن نادى عليه زميلي المصور لنسأله عن سبب ارتياده لهذه المزبلة إلا انه ما إن هم بالحديث حتى سمعنا صوتا ينادي علينا من بعيد أن نبتعد عنه ويطالبه بمواصلة عمله، كان مصدره من مجموعة ثلة الشباب التي كانت تنتظر قدوم إحدى الشاحنات لتظفر بما يمكن استرجاعه من نفايات حديدية أو بلاستيكية، اقتربنا منهم لنسال عن سبب صدنا بالحديث لذلك الطفل فأجاب أحدهم الذي اتضح فيما بعد بأنه أكبرهم وقائدهم بنبرة فيها نوع من الغضب والفظاظة " واش تحتاجو منو " حنا ما نهدروش معا الصحافة" " تبين لهم ذلك من خلال الكاميرا الذي كان يحملها زميلي المصور" وبعد أن توددنا إليهم بطيب الكلام وشرحنا لهم غايتنا و بينا لهم حسن نيتنا حسن نيتنا وان ننقل إلا الحقيقة ارتاحوا إلى حديثنا ومرد ذلك بحسبه لكون بعض الجرائد تنعتهم بأقبح الأوصاف وأقذرها وبأنهم ليسوا سوى قطاع طرق ومتشردين ولا يحق لهم العيش بين عامة الشعب، مؤكدا بأنهم جزائريون والوطنية تسري في عروقهم وما جاؤوا إلى هذا المكان إلا لظروف معيشية قاهرة ليعيشوا بعرق جبينهم، مضيفا بان هؤلاء الأطفال لولا الحاجة والفقر ما جاؤوا الى هذا المكان الذي تفقد فيه كرامة الإنسان،هذه الكلمات التي كانت لها أكثر من دلالة قد تركت في نفوسنا وستترك دون شك في نفس القارئ الأثر العميق. محمد ذو الإحدى عشر سنة الذي كان ينتعل نعلين ممزقتين بدت من خلالهما أصابع قدميه ولم تكن ربما حتى لتحميه ربما حتى من بقايا الزجاج والأشياء الحادة المتناثرة هنا وهناك وهناك، ثيابا رثة اكتسبت لونا اسودا قاتما بفعل كثرة الأوساخ المتراكمة عليها، أما عن جسده النحيل فحدث ولا حرج.. أوساخ متراكمة تحت أظافره، يداه أصبحتا خشنتين بفعل ما علق عليهما من أوساخ، شعره منكوش وبشرته من كثرة الأوساخ التي علقت بها صارت تبدو على شكل طبقات .. كان أكثر المتحمسين للحديث معنا لم يدخل المدرسة قط اخبرني بأنه جاء رفقة عائلته منذ بضعة سنوات من مدينة قصر البخاري بالمدية واستوطنوا بأحد الأحياء القصديرية بالسمار في العاصمة، حيث يأتي كل يوم رفقة أخوته وأبناء عمومته الذين يعملون جميعا في جمع النفايات ولا يبرحون المكان إلا في أخر المساء بعد أن يجمعوا ما استطاعوا من نفايات حديدية وبلاستيكية ليقوموا بعدها ببيعها إلى احد تجار الخردة بأسعار تختلف بحسب قيمتها في سوق النفايات فأكد لي بأنهم يبيعون الكيلوغرام الواحد من الحديد ب 10 دنانير وهو نفس سعر البلاستيك، في حين سعر الكيلوغرام من الألمنيوم لا يتعدى 40 دينار أما النحاس المادة الأغلى ثمنا والأكثر طلبا فيتعدى سعرها 300 دينار للكيلوغرام الواحد، وهو ما يسمح لهم بحسبه بجمع مبالغ مقبولة في اليوم مؤكدا بأنه في بعض الأحيان يفوق ما يكسبه في اليوم الواحد 1000دينار جزائري. محمد بقدر ما كان مختالا بما يكسبه إلا انه لا يعي بجملة الأخطار الصحية الناجمة عن النفايات السامة وبقايا النفايات المنزلية وحتى جثث الحيوانات، وأشياء أخرى لا يسعنا ذكرها، التي تهدد سلامته وسلامة العديد من أقرانه. في حين يقول سعيد الذي لم يكن أفضل حالا من محمد كان يبتسم بعد كل كلمة يقولها مبديا نوعا من الخجل الذي أراد أن يخفيه بين ملامحه التعيسة فيقول" لم أدرس في حياتي لاعتبارات اجتماعية وأنا آتي كل صباح إلى هنا في الساعات الأولى من النهار مع اخوين لي حتى ابحث بين هذه النفايات علي أجد بعض الأشياء التي يمكن بيعها ". ثم وسألناه عن وضعيته الاجتماعية، فقال إنهم تسعة إخوة إلى جانب الأب والأم، وبما أن والده ليس له عملا قارا اضطر وهو بعض إخوته إلى الخروج ومساعدته في توفير لقمة العيش. براءة تفقد أرواحها تحت عجلات شاحنات "نات كوم" .وفي خضم حديثنا مع سعيد نادى علينا زميلنا المصور الذي كان يتوسط المجموعة ويحاول إقناعهم بأخذ صور لهم وبعد أن ادر كناهم راحوا يسردون علينا إحدى الحوادث المميتة حدثت منذ مدة ليست بالطويلة كان ضحيتها صديقا لهم لم يتجاوز سن 11 سنة دهسته إحدى الشاحنات وهو يهم بالصعود فوقها ليظفر ببعض النفايات التي يمكن استرجاعها وبيعها ولان جسده النحيل لم يساعده على الصعود لان الشاحنة كانت في حالة سير لم يجد نفسه إلا تحت عجلاتها التي هشمت عظامه واردته قتيلا في الحال. تركنا هذه البراءة ونحن نرثي حالها وحال الكثيرين من أترابها التي قادها القدر لان تنافس الكبار في جمع "الأقذار" غير آبهة بالإخطار التي تتربص لها من كل جانب وواصلنا المسير بعد أن عرجنا على الطريق الرئيسي الذي كانت تحيط به ركام النفايات التي تحولت إلى أشبه من الجبال بفعل أطنان النفايات التي تطرحها الشاحنات القادمة من مختلف بلديات العاصمة، ناهيك عن الروائح الكريهة الممتزجة مع الغبار المتطاير جعلتنا فضلا عن الحرارة الشديدة وفي طريقنا صادفنا زاوية حولها بعض الشباب " المنتفع من خيرات هذه المزبلة " إلى مكان للإقامة بعد أن شيدوا بها أكواخا من الصفيح والبلاستيك لا تجرؤ حتى الحيوانات بالمبيت فيه، حيث قادنا فضولنا لنستطلع المكان لتفاجئنا بعض الكلاب التي كان يبدوا بأنها تحرس "المنتجع" وخفوا من أن تهاجمنا فضلنا أن ننادي احدهم الذي استجاب إلى دعوتنا غير انهي جاء يترنح ذات اليمين وذات الشمال إلا انه اتضح لنا من خلال حديثه وتصرفاته انه لم يكن في وعيه ودائما كان الشرط – عدم التصوير- وبعد دردشة لم تكن ذات فائدة معه فوجئنا بعربة نفعية نزل منها شخصان فسألنا احدهما تبين فيما بعد بأنه المسؤول الأول عن هذه المفرغة وسألنا عن هويتنا فأخبرناه بأننا من الصحافة، ثم سألنا أن كنا نحمل ترخيصا للقيام بمهمتنا فردينا عليه بلا، إجابتنا هذه تركت له العنان ليمنعنا عن مواصلة مهمتنا وانه لا بد لنا من العودة من حيث أتينا، ولكن بعد اخذ ورد في الكلام بيننا اتصل بمسؤوله المباشر عن طريق الهاتف النقال ليبت في قرار بقائنا من عدمه لنتأكد بعدها بأننا ربحنا الرهان وسمح لنا بالعمل بكل حرية بهذه "المملكة" حتى انه تم إرسال عونين من الكلفين بالأمن معنا لمرافقتنا حمايتنا من أي مكروه قد نتعرض له،حيث أن وجودهما معنا إعطانا نوعا من الأمان وأعاد إلى نفسينا الاطمئنان واستقبلنا " أهلها " بحفاوة وترحاب كبيرين وأدخلونا إلى عالمهم الخاص ، فرحت انظر ذات اليمين وذات الشمال ولأنني كنت لا أريد أن اخرج عن إطار الموضوع الذي جئت من اجله إلا أنني وجدت نفسي اسرد في كل مرة ما عايشته في غضون ساعتين فقط بهذه المفرغة. تعددت الأسماء والمعاناة واحدة. الأسماء: خالد، محمد، حسين وعلي ...الأعمار 11، 12، 13 ،12... والقائمة مفتوحة هي أسماء متعددة وأعمار متقاربة لكن صور المعاناة واحدة، فهذه الوجوه البريئة التي اجتمعت فيها صفة الفقر تحملت قساوة العيش وتحدت الظروف لتكسب بعضا مما تجود به شاحنات " نات كوم " قد حملت هموم الدنيا قبل أوانها ، والغريب في الأمر أو كما يبدو لنا ظاهريا أن اغلبهم يبدون في صحة جيدة وسلامة جسدية وكأنها اكتسبت مناعة ضد الأوبئة والأمراض الخطيرة . وفي اللحظات التي كان المصور يلتقط بعض الصور كنا ننفرد بعون الأمن الذي اخبرنا بأنهم يعرفون معظم هؤلاء الأطفال والذين يقيم بعضهم بهذه المزبلة التي تفوق مساحتها 32 هكتارا وارتفاعها المقدر بحوالي 60 مترا، لا يبرحونها إلا نادرا ثم سألته أليس لهم أهل أو بيت يأوون إليه ففاجأني بان وسط هذه القاذورات تقيم عائلات بأكملها وأكثرهم قدموا من الولايات الداخلية للوطن مثل المسيلةالجلفةالمدية البويرة وغيرها بالإضافة إلى أبناء المناطق القريبة على غرار الحراش السمار باش جراح مفتاح...والذين هم في الغالب من النازحين إلى العاصمة إبان سنوات الجمر والفارين من حالة اللامن التي عرفتها البلاد في سنوات الإرهاب، ثم سألته إن كان قد عايش بعض الحوادث المميتة خاصة بين الأطفال فأكد لي بان الكثير منهم لقوا حتفهم تحت عجلات الشاحنات بسبب احتكاكهم مع الكبار الذين يفوقنهم قوة وذلك بعد أن تبدأ الشاحنات في تفريغ حمولتها وهو ما يجعلهم عرضة للموت في أية لحظة. ففي كل زاوية من زوايا مفرغة واد السمار ينضم لقافلة أطفال العمل -الذين دفعهم الفقر إلى تحويلها إلى مصدر رزقهم أين يبحثون ويجمعون وسط الفضلات كل ما يمكن استرجاعه و إعادة بيعه.بسبب زحف الفقر ومخلفات سنوات الإرهاب التي زادت من تعقيدات شريحة واسعة من المجتمع الجزائري- طفلاً جديداً لأسرة فقيرة في مشاهد تهاوت معها لوائح اليونيسف، وجردت الطفولة من كل معانيها ، حتى أصبح الفاتح من جوان في خبر كان.