عندما دخلت العيادة لأول مرة، سألتني سجينة ما قضيتي؟ فأجبت وقلت ''لست قاتلة ولا سارقة''•• فردت المدعوة ''أما مسكين'' بلهجة حادة، قائلة ''هذا الكلام يوجع، فالتي بلاها الله بالقتل دون أن تنوي ذلك !! في كل مرة تأتون وتقولون كلاما موجعا'' فعرفت أنه ليس مكان للتفاخر بالبراءة، واعتذرت لها، وعرفت فيما بعد أن ''أما مسكين'' أمضت في سجن الحراش 18 سنة وهي ثاني أطول مدة بعد المدعوة ''ذاشو'' التي أمضت عشرين سنة عقوبة لجريمة لم تقترفها• وعقوبة ''أما مسكين'' هي المؤبد، والجريمة هي قتل زوجة خالها، حيث تقول إنها تشاجرت معها، ودفعتها بشدة فسقطت الضحية على مغسل المطبخ، ونقلت وهي تتكلم وتتحرك إلى المستشفى، وماتت في نفس المساء، ولأن لأهل الضحية علاقات ويد طويلة حكم على ''أما مسكين'' مباشرة بالإعدام، وتحول الحكم إلى المؤبد، وهي من ولاية مستغانم ، ولا يزورها أحد من أهلها، آخر الأخبار وصلتها عن أبنائها كان الصائفة الماضية حيث تزوج ابنها الأصغر• تتذكر ''أما مسكين'' العرس الكبير الذي أقامته أياما وليالي عند ختان أبنائها، وقال لها الناس لماذا كل هذا من أجل عملية ختان، فقالت من يدري، ربما لن أحضر زفافهم !!، ''أما مسكين'' لم تفقد الأمل في الخروج يوما ما، وتقول إنها عندما تخرج ستطلب من أهلها أن يطبخوا لها ''الدوارة والكبدة'' وكل ما اشتهته نفسها من أكل وهي في السجن• وما حز في نفسي هو ما قالته لإحدى السجينات عندما أعطتها هلالية ''إيه شبعت الكرواسون كيف كنت في السبيطار!!''• ورغم أن الكل يكن لها المودة والاحترام من سجينات وحارسات فهي ''جدة'' ليانيس والأطفال الآخرين، لكن مسحة الحزن لا تفارق وجهها، ودعتني عند خروجي قائلة ''حتى شي ما يسخفني في السجن مثل الخرورج''!! أسبوعي الثاني في السجن كان أسبوعا حافلا بالزيارات والأهل والمحامين• فكل يوم كان يزورني محام، هذا أرسله زميلي أحمد فطاني، مدير يومية ''ليكسبريسيون'' وأخبرني الأستاذ فطاني أن الزملاء في الخارج مهتمون جدا بقضيتي، وهو أمر لم أكن أشك فيه أبدا، ونفس الكلام سمعته من أخي عن قلق وغضب عمر بلهوشات، مدير يومية ''الوطن'' وبشير الشريف مدير يومية ''لا تريبون''، وعلي فضيل مدير ''الشروق'' والزملاء في ''لوسوار دالجيري'' ومحمود بلحيمر من ''الخبر''، وفي كل العناوين الأخرى، الشيء الذي أعطاني المزيد من القوة والشجاعة• كل المحامين كانوا ينقلون لي أخبارا إيجابية عن تضامن الزملاء حول قضيتي، وكانوا يعجبون لأمري، لأني لم أكن أشكو ظروف السجن، ولا الجوع ولا العطش، وإنما كنت أروي عليهم ما رأيته وما سمعته من حكايات عجيبة وآلام الآخرين، فلم أكن أشتكي شيئا، ولكني كنت أقول في كل مرة، إنني متماسكة حتى غاية 25 ديسمبر، لكني لا أضمن لكم ذلك بعد هذا التاريخ، لو رفضت المحكمة الإفراج عني فربما سأنهار• قالت لي الأخصائية النفسية التي تزور المستشفى كل إثنين، وهي ترد على تحيتي وإبتسامتي بإعجاب، هل أنت دائما متفائلة كهذا؟'' قلت: كيف عرفت ذلك؟ قالت: من إشراقتك فهل أنت تشيعين دائما النور من حولك؟ قلت: ربما، فأنا أحب الحياة وأقبل عليها بشغف ونهم شديدين!! قالت: هل أثرت في السجينات خلال فترة وجودك في السجن؟ قلت: ربما، لا أدري، أنا لم أنتبه لذلك لكنهن يحترمنني كثيرا• وبعد حديث حول المهنة وظروف سجني، قالت الأخصائية بإعجاب، إنها منذ أن بدأت هذه المهنة كأخصائية نفسانية بالسجن، لم تقابل لا سجينا ولا سجينة في قوتي وإيجابيتي، فقد أخذت قضية سجني ببساطة، وجعلت منها أمرا إيجابيا في تجربتي الإعلامية• قلت: ربما لأنني صحفية• قال: بل قابلت الصحفيين!! قلت: ربما لأني أعرف أنني سأخرج بعد أسبوع• قالت: بل قابلت الذين جاءوا لليلة واحدة، ومع ذلك انهاروا وتعقدوا!! وأضافت: ثقتي سيدتي أنني لن أنسى وجهك واسمك ما بقي من حياتي !! قلت: شكرا!! نفس الكلام قاله لي الشرطي الذي رافقني مرتين إلى المحكمة، إذ قال: إن كل الذين دخلوا السجن تعقدوا إلا أنت!! قلت: الحمد لله الذي أعطاني هذه القوة فما كنت أتصور أنني سأقدر على السجن• بعد أن انتهيت من مقابلة الأخصائية النفسية، ذهبت إلى ساحة السجن أين كانت السجينات جالسات على الأرض حول مرشدة دينية تجلس على كرسي وسط الساحة، وكانت أغلب السجينات يتظاهرن بالإصغاء، لأنهن مجبرات على ذلك، فكل إثنين تأتي مرشدات لإعطاء دروس وعظ للسجينات، وقالت المرشدة كلاما غريبا، إذ نصحت السجينات بأن يصبرن على أزواجهن عندما يضربنهن!! وهنا ردت مليكة رفيقتي بالعيادة التي قتلت هي الأخرى زوجها ومحكوم عليها بالمؤبد ''كيف أصبر، فقد صبرت لظلمه عشرين سنة!!؟''• يتبع•• غدا .. بسبب هاتف نقال .. حارسة في الزنزانة