حركة دؤوبة وتوافدا كبيرا للمواطنين، ومن مختلف الأعمار من أجل اقتناء اللحوم بكل أنواعها، فلم تعد ''بورصة اللحوم'' التي يديرها جزارون مراهقون وشباب بطال تقتصر على ''الديك الرومي'' أو ''الدند''، واختيار شرائح ''السكالوب''، بل تحولت المنطقة إلى مذبح ومسلخ في آن واحد يوفر لحوم الماعز والغنم وحتى البقر• رغم غياب أدنى شروط النظافة والفوضى التي تميز ''المفطع''، فإن الإقبال كثيف على هذه السوق لاقنتاء اللحوم بأبخس الأثمان، خاصة وأنه لم يعد يقتصر على الطبقة المتوسطة وضعاف الدخل، بل زاحمهم حتى أصحاب المال و''الشكارة''، وهو ما ترجمته السيارات الفاخرة بين ''المرسيدس'' ومختلف أنواع ''الكات كات''، للظفر بما جاد به مذبح ''مفطع خيرة'' من اللحوم، فرارا وهروبا من أسعار مرتفعة تراوحت بين 850 و900 دج، بل وبلغت حد 100 دينار خلال شهر رمضان الكريم، فضلا عن اعتبار المهمة جولة ترفيهية بالنسبة للكثير من الزبائن• كثيرا ما سمعنا قصصا وحكايات مغرية عن مذبح ''مفطع خيرة''، لكن هذه المرة استجبنا للإلحاح والفضول الصحفيين واندفعنا باتجاه هذه البورصة للوقوف على حقيقة ما يتردد عن الأثمان الباهظة المطبقة، وعمليات الذبح التي تتم في عين المكان وأمام الزبون بعد الاتفاق وحسم الأمر، وكان على هذه المهمة أن تمر عبر ولوج المنطقة الغابية المعروفة باسم ''مفطع خيرة'' الواقعة بإقليم بلدية معالمة، أقصى الجنوب الشرقي للعاصمة، بولاية تيبازة الساحلية، والوقوف عن قرب أمام مذبحها المشهور، والذي ذاع صيته في أرجاء الوطن، وحوّل هذه المنطقة التي كانت معروفة بأحداث السرقة والسطو نظرا لعزلتها ووقوعها في سفح الجبل، وبمحاذاة الغابات، إلى ممر آمن باتجاه شواطىء البحر خاصة، وقبلة حقيقية لاقتناء مختلف أنواع اللحوم، حيث أعاد تأمين المنطقة مظاهر الحياة إلى ربوعها، وزاد في رواج سمعة السوق حرص عناصر الدرك الوطني على تأمينها من كل المخاطر، من خلال تعداد الحواجز وإقامتها بشكل دائم لتراقب كل المداخل والمخارج، رغم أن السوق تعتبر موازية وفوضوية• يوم الخميس الماضي، وبالضبط في حدود الساعة الحادية عشرة والنصف، توجهت رفقة صديق لي على متن سيارته، كونه يعرف المنطقة الغابية وخباياها، ''مفطع خيرة'' وعند وصولنا، توقفنا وركن مرافقي سيارته مع طوابير السيارات التي وجدناها هناك، وكانت تحمل ترقيم العديد من الولايات الوسطى والداخلية، مثل عين الدفلى، الجلفة، بومرداس، الأغواط، المدية، الجزائر، البليدةوالشلف• نظرية ''الرخا يدهش'' و''صحيحة فارانتي'' تستميل شعار السوق اختار مواطنون قطع عشرات الكيلومترات لاقتناء لحوم مختلفة الأنواع، بين ''الديك الرومي''، الماعز، الغنم، وحتى البقر، أو بدافع الفضول أو قتل الوقت، كما يقال، ونحن نضع أقدامنا لأول مرة في ''مفطع خيرة''، تبين لنا من خلال الحديث مع المواطنين أن الكثير منهم أصبح زبونا وفيا للسوق، ويتردد عليه في كل الأوقات، إذ قال ''ك•س'' القادم من ولاية الشلف، إنه تعود المجيء إلى هنا كل نهاية أسبوع في الأيام العادية لاقتناء لحم ''الديك الرومي''، وأن الأمر يتضاعف خلال شهر رمضان الكريم، وأنه صار زبونا لدى الجزارين المراهقين، حيث أصبح يتعامل معهم بصفة دورية، فيخصصون له ما يحتاجه من اللحم الذي يفضله من ''الماعز''• تركناه يقتني حاجياته، وتتبعناه خلسة ودون أن يحس بنا، لينتهي به المطاف إلى سيارته، وكم كانت دهشتنا كبيرة حين أدركنا أن السيارة من نوع ''بي• أم• دابليو'' سوداء اللون، واتضح بعدها أن ذلك الشخص من أصحاب المال، وهو ما عرفناه في دردشة قصيرة جمعتنا بأحد الشبان الذي يعمل في مذبح ''مفطع خيرة''• لكن ما شد انتباهنا وتداول على آذاننا سماعه ونحن نصول ونجول، هو شعارات ''الرخا يدهش''، ''كول يا زوالي''، ''صحيحة وفارانتي•• ماشي مريضة''، وكأن بتجار اللحوم والذباحين هناك يختارون وبدقة متناهية عبارات الاستمالة واللعب بالعقول، تبرر الأسعار المعقولة المطبقة مقارنة مع واقع محلات الجزارين الأخرى، وتجعل الزبون تلو الآخر يندفع ودون أدنى تفكير لاقتناء ما طاب ولذ من اللحوم من الدند والماعز والغنم، وبأسعار خيالية ترواحت بين 230 دينار للكلغ الواحد من ''الديك الرومي''، و400 دينار للكلغ من لحم ''الماعز''، أما لحم الغنم فيصل ثمنه إلى 500 دينار، لكن المثل الشعبي القائل ''عجبو رخصو خلا نصو'' يبقى حاضرا بقوة، ويولد كل أشكال الحذر لدى الزبون، خوفا من أن يضر ''مفطع خيرة'' بصحة الزبائن ويهددها وصحة أفراد عائلاتهم! ريش طيور يشكل ''كثبانا'' و''الذباحون'' حوّلوا ''المفطع'' إلى مستنقعات من الدم غيرنا وجهتنا داخل المنطقة وفضلنا هذه المرة الاقتراب أكثر من أماكن ''الذبح''، ولكم أن تتصوروا ما كانت تخفيه الأشجار، إنها كثبان من ''الريش'' وسيول من دماء المواشي امتزجت مع بعضها البعض وغيرت المكان وجعلته أشبه ما يكون بمستنقع، ما يثير التقزز في النفوس• ووسط كل هذا اختارت طفولة بريئة المكان للظفر بقوت يومها من أجل مساعدة عائلاتها الفقيرة، أطفال تتراوح أعمارهم بين 8 و14 عاما يخضعون للتجريب، ليس في مركز التكوين المهني بل في امتهان ذبح الديك الرومي ونتف ريشه مقابل بضعة دنانير، حسب تقدير أحد الأطفال المدعو ''رفيق''، ابن حي ''قبايل'' الواقع بأعلى الجبل المحاذي للطريق السريع، الذي قال ''نحن هنا من أجل العمل وفقط، لا دخل لنا في من يأتي بالسلعة ومن يشتريها، همنا الوحيد تحصيل النقود، حيث نصل في أوقات الذروة إلى تحصيل بين 400 و600 دينار لليوم الواحد، بمعدل 20 دينار للديك الواحد، وهذا من أجل التحضير لعيد الفطر بشراء الملابس، وبعدها اقتناء لوازم الدخول المدرسي الذي تزامن هذا العام مع شهر رمضان''• طفولة تتعلم تقنيات ذبح عشوائية ومهنة ''الجزارة'' معلقة بين الواقع والخيال ليس رفيق وحده من وجدناه في مذبح ''مفطع خيرة''، بل هناك من أترابه من فضلوا تقنيات ذبح الديك الرومي والأغنام أيضا، ف''حسان'' البالغ من العمر 14 عاما، يقول إنه ''بإمكانه ذبح كبش أو خروف بحكم الخبرة في هذا المجال التي اكتسبها من خلال احتكاكه المستمر والدائم في أوقات العطل وخلال شهر رمضان، على مدار 4 سنوات كاملة، بتجار المواشي والدواجن وجزاري المنطقة، الذين يغتنمون الفرصة ويستغلون عقول الصغار لاستمالتهم، وهذا حسب ما أكده بعض سكان وأهالي المنطقة الذين تحدثت إليهم ''الفجر''، حيث يخشى هؤلاء على مستقبل وصحة وسلامة فلذات أكبادهم، خاصة النفسية والعقلية، من تبعات مناظر الدماء المقززة والذبح المستمرة أمام قدرة تحمل ضعيفة بحكم صغر السن وعدم اكتمال نضجهم، الأمر الذي يجعلهم عرضة لنوبات وصدمات محتملة، لكن بالرغم من كل هذا فهؤلاء لا سبيل لديهم سوى غض الطرف عما يقوم به أولادهم من أجل الحصول على حفنة دنانير تساعدهم على تخطي عقبة العوز والحاجة• شجارات بالخناجر بين باعة وتجار ''المذبح الفوضوي'' بسبب الجشع ومن بين المظاهر السلبية التي شهدناها في مذبح ''مفطع خيرة'' ونحن نقوم بمهمتنا، كثرة الشجارات والمشادات بين الباعة والتجار والجزارين الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء على ''المذبح'' أو ''السوق''، وهذا كله بسبب الجشع واللهفة وراء الربح السريع، غير عابئين بالعواقب الوخيمة التي تنجم عن تلك السلوكات المتهورة التي تخلف ضحية ومجرما، واحد يقبر والآخر يزج به في الزنزانة، فطيلة تواجدنا بالسوق لمدة زمنية قاربت ثلاث ساعات، شهدنا ست مشادات تعدت إلى العراك بالأسلحة البيضاء المتوفرة بالسوق•• فالجميع جزارون ومدججون بالسواطير والخناجر والآلات الحادة التي تعددت استعمالاتها لدى جزارين مراهقين فوضويين احتلوا المكان وحولوه إلى مملكة، أو بالأحرى ''ملكية خاصة''، السيد فيها هو الأقوى، حيث يسيطر عليها ''قانون الغاب''، صحيح أنها منطقة محظورة، والواقع يؤكد كلامهم في ظل الغياب التام لقوى الأمن في سوق فوضوي تسيره خناجر جزارين مراهقين فوضويين• طوابير لا تنتهي وسط دماء حمراء في نقطة سوداء الخاسر فيها المستهلك وبالرغم من المنظر المقزز والذي يشعرك بالغثيان، خاصة وأنت ترى البقايا والزوائد مرمية وكميات الدم التي اختلطت بالتراب، بالإضافة إلى الحالة التي تجد فيها البائع والجزار معا والرائحة الكريهة المنبعثة من مكان الذبح، ناهيك عن رؤوس الكباش المعلقة والتي تقطر دما، وبجانبها الفضلات ومجموعة من الدلاء ملطخة بالدماء، إلا أن تهافت وإقبال الزبائن بأعداد كبيرة يطرح العديد من التساؤلات••؟ وقبل مغادرة المكان اقتربنا من بائع كان يحمل معه سكينا كبيرا لأقتني كمية من اللحم، وقال كم تريدان، قلت له: كم ثمن الكيلوغرام، قال 500 دينار، فحاولت التأكد من مصدر جلب الدند والماشية، وقلت: هل هو مراقب من طرف البياطرة؟ فأجابني بغضب كبير ''إذا أردت أن تأكل لحم البياطرة اذهب واشتره ب1000 دينار''، ثم قلت له: هل هذا كبش أم نعجة، وهل هو مريض؟ قال لي: إنها نعجة، وهي ليست مريضة، وإذا لا تريد أن تشتري لا تضيّع وقتي، فالناس ينتظرون''• غير أن المطاف انتهى بنا بشراء لحم الدند•