طلب مني قارئ جزائري أن أعلق على ما كتبه سعيد شحات في اليوم السابع المصرية من أن هناك شهداء مصريين سقطوا في ثورة الجزائر ومنهم إلهامي بدر الدين الذي قال عنه الكاتب إنه استشهد مع مئات الجزائريين في منطقة القبائل بعد أن دخل إلى الجزائر عبر منطقة وهران! وكان عمره 23 سنة، وأنه صحفي مصري وأن فتحي الذيب هو الذي أبلغه بذلك! وأن عبد الناصر عندما أخبره فتحي الذيب بالأمر طلب إحضار جثة الشهيد المصري إلى مصر! وأن فتحي الذيب لعب أدوارا عظيمة في التحضير لانطلاق ثورة الجزائر! المقال إيّاه كان تحت عنوان "المتراجعون عن الفتنة بين الجزائر ومصر"! والحقيقة أن محتوى هذا المقال هو تعميق للفتنة وليس تراجعا عنها.. فعندما يمارس الكاتب الكذب على الناس بهذه الطريقة المضحكة فهو يمارس التعميق للفتنة ولا يتراجع عنها! فالعقل المصري يقبل كل شيء حتى الكذب الصارخ كهذا الذي كتبه سعيد شحات في اليوم السابع ويكرره كي يرسخ في أذهان الناس رغم أنه يعلم بأنه يكذب! ولا أحد يمكن أن يصدق كذبه! فكيف يصبح إلهامي صحفي وعمره 23 سنة! وعلى صلة برئيس المخابرات ويرسله إلى الجزئر؟! فهل هو صحفي أم مخبر؟! وما هي الصحيفة التي اشتغل بها؟! وهل جاء للجهاد مع الجزائريين أم جاء في مهمة صحفية أم أمنية؟! وهل يعقل أن يصل خبر موته إلى عبد الناصر ويطلب إحضار جثته؟! ألا يعلم هذا الكاتب المسكين أن الجزائريين المجاهدين لا يموتون بالمئات في المعارك كما يدّعي لأنهم يتحركون في مجموعات صغيرة في حرب العصابات؟! ألا يعلم بأن التنقل بين ولاية وأخرى داخل التراب الوطني كان يتطلب شهورا، فكيف تنقل هذا الغلام المصري من وهران إلى تيزي وزو؟! ثم إن كريم بلقاسم قد خرج إلى تونس سنة 1956 وتولى قيادة منطقة القبائل غيره! فكيف مات هذا الغلام المصري في منطقة القبائل تحت قيادة كريم؟! التواجد الإعلامي المصري في الثورة الجزائرية كان منعدما تماما والحالة الوحيدة المسجلة بالصورة هي حالة حضور صحفي مصري إلى الحدود الغربية داخل التراب باسم صحيفة المصور المصرية.. والتقى وقتها هذا الصحفي مع المرحوم هواري بومدين فقدم له نفسه باسم القائد رقم 46 مكلفا بتدريب المجاهدين على استعمال السلاح! والصورة لبومدين منشورة في المصور سنة 1958! وما كان ينشره صوت العرب عن الثورة الجزائرية هو عبارة عن معلومات تقدمها البعثة الجزائرية في القاهرة وأغلب مضامينها غير صحيح وقد قال لي ذلك المرحوم محمد يزيد وزير الإعلام في الحكومة المؤقتة.. ومن النكت التي يرويها محمد يزيد عن غباء الإعلام المصري أن بعضهم كان يذيع أخبارا تتحدث عن مطاردة الثوار الجزائريين لعسكر فرنسا من جزيرة إلى جزيرة لأنهم كانوا يعتقدون أن الجزائر هي جمع جزيرة! أما حكاية تحضير المخابرات المصرية لإطلاق الثورة فقصة تعرف فتحي الذيب على بن بلة في القاهرة تدحض هذا الادعاء "فبعدما تقرر إطلاق الثورة أرسل الوفد الخارجي إلى القاهرة بقيادة بن بلة وهناك تعرف عليه فتحي الذيب بعد ترتيب إطلاق الثورة وبيان أول نوفمبر نشرته الصحف المصرية وصوت العرب نقلا عن وسائل الإعلام الفرنسية.. لأن المصريين لم يكونوا يعلمون بالثورة وبالتحضير لها.. وإذا كان الثوار الجزائريون نجحوا في إخفاء سر الثورة عن المخابرات الفرنسية فكيف تعرف المخابرات المصرية ذلك وهي مخترقة من اليهود والأمريكان إلى العظم؟! وقد قال المرحوم بوالصوف إن قائد الثورة بن بولعيد أخّر انطلاق الثورة بستة أشهر لإقناع كريم بلقاسم بالانضمام إليها! وقد سأل كريم بن بوالعيد سؤالين: من أين تحصل على السلاح؟ فأجاب بن بوالعيد: من الثكنات الفرنسية التي نهاجمها! وسأله عن التمويل؟ فقال: من اشتراكات الجزائريين! فقال له كريم: لو قلت لي بالاعتماد على العرب لرفضت أن أسير معك في الأمر.. ألا ترى كيف سلم العرب فلسطين لليهود عندما اعتمدوا عليهم؟! فهل قيادة بهذا الوعي يمكن أن تكشف سرها لفتح الذيب؟! وسبب نقل قيادة الثورة من القاهرة إلى تونس كان وراءه محاولة فتحي الذيب حشر أنف المخابرات المصرية في شؤون الثورة وهو ما رفضه قادة الثورة وعلى رأسهم كريم بلقاسم! ولعل سر نجاح ثورة الجزائر هو عدم خضوعها لفتحي الذيب. وفي موضوع السلاح كانت مصر تأخذ السلاح الجديد القادم للثورة من أوروبا الشرقية وتسلم الجزائريين السلاح القديم للجيش المصري.. وكانت تأخذ أيضا %10 من الشحنات كحق العبور.. وبالنسبة للتبرعات العربية المالية كانت مصر تشترط أن تشتري البضائع من مصر.. والرئيس علي كافي يشهد بذلك وقد ناقش الموضوع مع ناصر في مصيفه في الأسكندرية عام 1960، عندما أوقفت مصر صرف المساعدات العربية للثورة الجزائرية عبر الجامعة العربية بسبب نقل قيادة الثورة من مصر إلى تونس! وكان المبلغ المصادر من مصر آنذاك في حدود 2 مليون جنيه حسب ما يذكر كافي! نعم هناك شهداء في الثورة الجزائرية من تونس ومن المغرب وهناك مجاهدون عرب من سوريا ومن ليبيا.. لكن لا يوجد مصري واحد شهيد أو مجاهد في ثورة الجزائر.. والتوبة والتراجع الفعلي عن الفتنة هي أن تكفوا عن الكذب على شعبكم وعلينا بأنكم حررتمونا وعلمتمونا.. فهذه فعلة أشنع من فعلة سب الشهداء.. فهل يعقل أن تكونوا حررتم الجزائر وأنتم عاجزون عن تحرير سيناء حتى الآن؟! رئيسكم بعد أن هدّد الجزائر في خطابه أمام مجلس الشعب المصري بالويل والثبور وعظائم الأمور.. عاد إلى منطق العقل واعتذر بحضوره إلى الجزائر شخصيا وقُبل اعتذاره بفرش الجزائر البساط الأحمر له! حتى ولو كان أحد أبناء الشهداء قال لي في غضب: لقد أحسست أنه يسير فوق بركة دماء والدي الشهيد الذي وصفه المصريون في الفضائيات باللقيط! وليس البساط الأحمر! وحين تنتفض مجاهدة بحجم جميلة بوحيرد فهذا له معناه. أما بخصوص مساهمات الجزائر في حروب مصر بالمال والرجال والسلاح فنحن نتعفّف عن ذكر أي شيء وما نشر من معلومات كان مصر مصدرها ولم تكن الجزائر، وهاتوا مسؤولا جزائريا واحدا فتح فمه بما لا يليق ضد مصر عكس الأمر عنكم! لكن نحن نحس بمرارة عندما نسمع بأن سيناء التي مات أبناء الجزائر دفاعا عنها يموت فيها المصريون وغير المصريين دفاعا عن أمن إسرائيل.. وتكتب الصحف الإسرائيلية: إن سكان سيناء المصريين يفضلون الانتماء لإسرائيل على الانتماء إلى مصر! المصيبة أن الإعلام المصري لم يعد يحسن الكذب على الشعب المصري كما كان يفعل في الماضي وأذكر هنا أنني سألت الأستاذ محمد حسنين هيكل في جوان 1975 ينزل الجزائر: لماذا لم يعد الإعلام المصري كما كان في عهد ناصر حين كنت أنت على رأس الأهرام؟ فأجابني: الأمر يتعلق بالأشخاص وكفاءاتهم وليس بالقرب أو البعد من الرئيس، فالرئيس موجود والمعلومات موجودة.. ولكن المفقود هو التعامل مع ما هو موجود بكفاءة! وأذكر أيضا أنه بعد جلسة غداء عقدها الأستاذ هيكل مع المرحوم محمد شريف مساعدية في مطعم "الطاحونتان" بشراڤة سنة 1975 قال لي محمد شريف مساعدية: مصر فقدت قيمتها عندما أصبحت تفضل إبراهيم نافع على رأس الأهرام عوض هيكل! وقال مثلا شعبيا جزائريا لا أستطيع ذكره لقساوته! ومعنى هذا الكلام أن مصر يجب أن تصحح أكاذيبها نحو الجزائر بخصوص التحرير والتعليم.. لأن الجزائر كانت تتحمّل الكذب الإعلامي المصري طوال 60 سنة لأنها تتعامل مع بعض المصريين الذين تستحي الجزائر من الإساءة إليهم عبر الإساءة لمصر! أو على الأصح بعض المصريين! من أمثال كذبة اليوم السابع ولا أقول كتبة اليوم السابع! أتذكر أيضا أنه في سنة 1992 أساءت جماعة المرحوم بوضياف للفريق سعد الدين الشاذلي عندما أشعرته بأنه غير مرغوب فيه في الجزائر، وبشموخ وعزة نفسه فضّل أن يسلّم نفسه لمصر ويسجن فيها على أن يهان في الجزائر.. وتعاطف معه كل الجزائريين ضد حكومة الجزائر التي أساءت إليه كبطل.. وضد حكومة مصر! وقابلته في غرفته بفندق الشيراطون في الخرطوم بعد خروجه من السجن سنة 1993 وأحس بأنني "مكسوف" منه بسبب ما حصل له على يد جماعة بوضياف في الرئاسة الجزائرية فقال لي بكبرياء الكبار: "هؤلاء لا يمثلون الجزائر، تصرفهم نحوي لا يمثل تصرف الجزائريين والجزائر التي أحبها"! أسوق هذا المثال لأن مصر التي تهين أمثال الفريق سعد الدين الشاذلي وتهلل لبردعة زويل بالبرادعي ليركب ابن الأكرمين كفارس لمصر لا يسمح بسباقه حتى في الكرة فريق الجزائر! نعم مصر أرسلت لنا معلمين عام 1962.. لكن أرسلت لنا أيضا ضمن البعثة الإسكافي والحلاق والبوّاب وسائق الطاكسي والفوّال! وأذكر أن نصيبنا في المتوسطة سنة 1962 كان فوّالا مصريا.. فلا يتحدث إلا عن الفول! وكنا نعرف العربية أفضل منه لأننا درسناها في مدارس جمعية العلماء ومدارس حزب الشعب على أيدي أساتذة متخرجين من الزيتونة، لذلك كنا نمارس ضده الشغب الطلابي فنكتب له مثلا: كلمة "الفول" بالطباشير الأبيض على الكرسي بالمقلوب وعندما يجلس تطبع في ظهره.. وكان بدينًا جدا وعندما يخرج إلى الشارع يسير وظهره عليه كلمة الفول! ما أريد قوله هو أن مصر إذا أرادت أن تتراجع عمّا تسميه الفتنة مع الجزائر عليها أن تصحح أولا أكاذيبها الإعلامية بخصوص تحرير الجزائر وتعليم الجزائريين الجهلة! هذه هي التوبة الحقيقية وليست التوبة أن تكف فضائياتكم عن شتم الشهداء وشتم الجزائر. وشخصيا كنت أقبل ما كتبه السيد سعيد شحات لو قال إن إلهام شاهين أول شهيد في ثورة الجزائر وليس الغلام إلهامي بدر الدين! والقضية على أية حال لم تخرج من إطار السينما الصحفية المصرية! كذبة اليوم السابع حول وجود شهداء مصريين في ثورة الجزائر تشبه كذبة الإعلام المصري حول ما كانت تسميه الصحافة المصرية قبل هزيمة 1967 بصواريخ القاهر والظافر فخر الصناعة المصرية والتي ستدمر إسرائيل!؟