تمنراست.. ذلك العالم الرائع والشاسع، والساحر بطبيعته الخلابة والمعالم التاريخية الشاهدة على الفترة الأولى لتكوين الأرض مند أكثر من 3 ملايير سنة.. تمنراست.. بوابة للتاريخ، التهريب، السيدا، التزوير والمخدرات توريث العبيد يتواصل رغم منعه في السبعينيات من قبل الرئيس الراحل هواري بومدين فهي جنة للجيولوجيا تحتضنها الأهڤار من خلال منحوتات بركانية ورسومات حجرية عمرها آلاف السنين، كما أنها تحولت هذه السنوات إلى بوابة لمختلف الآفات الاجتماعية كالسيدا والمخدرات والتزوير والتهريب والهجرة السرية باتجاه أوروبا للدول الإفريقية وغيرها. الرحلة إلى عاصمة الرجل الأزرق جاءت بعد اختيار محافظة المهرجان الثقافي المحلي للفنون والثقافات الشعبية لولاية جيجل يومية “الفجر” لمرافقة الوفد إلى تمنراست لتغطية فعاليات الأسبوع المحلي، رغم ترددنا في البداية لبعد المسافة، حيث كان الوفد يضم أزيد من 50 مشاركا، من شعراء وفنانين وحرفيين ورسامين، وغيرهم، حيث انطلقت بنا الحافلة على الساعة الخامسة صباحا، وكان الحاضرون لا يتحدثون إلا عن كيفية قطع المسافة المقدرة بأزيد من 2400 كلم ذهابا فقط، وهذا من خلال خريطة جلبها رئيس جمعية “كال” الثقافية. وكانت الحافلة تطوي الطريق طيا، حيث عبرنا ولايات ميلة، قسنطينة، باتنة، فعاصمة الزيبان بسكرة، حيث تناولنا وجبة الغداء، ثم واصلنا الرحلة باتجاه ورڤلة، وعندئذ بدأت تبدو مظاهر الصحراء، وفي الوفد من لم ير الصحراء من قبل، فتجدهم يتأملونها بدهشة وإعجاب كبيرين، ثم واصلنا المسير إلى وادي سوف ثم تڤرت، فعاصمة الصحراء ورڤلة، لنكون قد قطعنا أزيد من 800 كلم، أي ما يعادل ثلث المسافة فقط، وهناك أقمنا بفندق المرحبى، لبضع سويعات، لنواصل رحلتنا التي دامت أزيد من 23 ساعة دون توقف، ماعدا دقائق تناول وجبة الغداء بمدينة المنيعة بغرداية، حيث كان علينا أن نسابق الزمن لنصل إلى الحاجز الأمني بمنطقة أراك، بعين صالح، قبل الساعة السادسة مساء، وهو الوقت الذي تمنع فيه حركة المرور في الاتجاهين لأسباب أمنية، على اعتبار أن المسافة بين عين صالح وتمنراست تقدر ب800 كلم، وكلها صحراء خالية، والمسافر معرض لكل الأخطار، وهنالك انتاب الخوف العديد من أعضاء الوفد، خاصة وأننا لم نكن نرى سوى الصخور والكثبان الرملية.. وهي منطقة تنعدم فيها الحياة فلا اتصالات ولا هواتف نقالة تشتغل ولا أي شيء، وما زاد من رهبة الوفد هو تعرض الحافلة الثانية إلى عطب، لكن لحسن الحظ كان بسيطا مكن السائق من إصلاحه سريعا وسط ذلك المكان الخالي الذي لا أثر فيه لإنسان أو مسكن. بعد مسيرة 23 ساعة، دخلنا مدينة الرجل الأزرق في حدود منتصف الليل، وأول ما شدنا أنوار جبل الهڤار الذي يراقب المدينة بعين ساهرة وهي تنام تحت سفحه هادئة مطمئنة. تعدد الزوجات وتوارث العبيد.. واسارو أو مفتاح المدينة.. سمرة الرجل الأزرق الرجل الأزرق أو الملثم، هي التسميات التي تطلق على أصحاب الأرض من قبائل التوارڤ المعروفين بلباسهم الأزرق الخاص وعاداتهم المميزة، وحسب الروايات، فإن أم التوارڤ هي الملكة “تين هينان” التي فرت في القرن الرابع الميلادي إلى أبلسة بتمنراست، وأسست لهذه القبيلة المترامية الأطراف بين النيجر ومالي. وحسب الترڤي عابدين، وهو إطار في السياحة، فإن التوارڤ اليوم أغلبهم يعيشون في المدينة وفي البادية، حيث يرعون الجمال والأغنام، مؤكدا أن التوارڤ يتساهلون في تعدد الزوجات، حيث يمكن للترڤي أن يتزوج عدة نساء دفعة واحدة دون إذن الزوجة الأولى. أما الزواج عندهم فيكون بين سن ال15 وال17 للفتاة والرجل، ويدوم العرس أسبوعا كاملا، وتقدر تكاليف الزواج بقيمة جمل أو بعير، أي ما يقدر ثمنه اليوم بين 5 و7 ملايين سنتيم. كما تشتهر المرأة الترڤية بموسيقى الامزاد حيث تؤديها النساء بالعزف على آلة كمان بوتر واحد. والمثير هو استمرار ظاهرة العبيد، التي ما نزال نسمع بها في المنطقة، فقد أشار محدثنا، عابدين، إلى أن الرئيس الراحل هواري بومدين حاول القضاء على الظاهرة في السبعينيات من خلال منع سوق الرقيق أو العبيد بالمنطقة، إلا أن ممارستها ظلت متواصلة إلى يومنا هذا، لكن عن طريق التوريث أبا عن جد دون البيع.. وأشار ذات المصدر إلى أن عائلته لها عبدين ورثهما وأبناءهما من العائلة الكبيرة، مشيرا إلى أن العديد من نبلاء التوارڤ مازالوا على هذا المنوال سرا. أما “اسارو” أو مفتاح المدينة المشهور في المنطقة، والذي يتفنن الحرفيون في نقشه وبيعه للأجانب بأسعار مرتفعة، فيعود إلى أميرة التوارڤ التي كانت تغلق على مجوهراتها في خزانة خشبية بواسطة مفتاح وتعلقه في أحد أطراف شاشها الأزرق، ثم تلفه إلى الوراء ليحكم الشاش جيدا من الريح.. وتفيد الأساطير بأن المفتاح يهدى ولا يباع، إلا أنه اليوم أصبح تجارة مربحة لمحترفي الصناعات التقليدية التي تشتهر بها المنطقة. هواجس السيدا والمخدرات تلاحق العائلات الترڤية في زيارة لمختلف أحياء مدينة تنمراست رافقنا صاحب إحدى الوكالات السياحية بالمنطقة، وكان عضوا بالمجلس الشعبي البلدي، يدعى أحمد، توجهنا أولا إلى حي قطع الواد، حيث لاحظنا التواجد الكبير والمكثف للسود القادمين من النيجر ومالي وباقي الدول الإفريقية المجاورة أين تعشش كل أنواع الآفات الاجتماعية، وهناك وجدنا مئات الشباب بمدخل جسر الحي في ألبسة رثة ينتظرون من يشغلهم في أي عمل وبأجر يتراوح بين 200 و300 دج فقط، وهنالك أيضا واقع آخر لنساء يتاجرن ببيع أجسادهن ويؤسسن لشبكات مختصة في الدعارة، حيث أشار أحمد، وهو ترڤي، إلى أن العائلات الترڤية أصبحت تخشى على أبنائها من مرض السيدا الذي فتك بالعشرات، مضيفا أنه يعرف العديد من ماتوا بهذا المرض الخبيث في السنوات الأخيرة. سوق أسيهار أو سوق المخدرات والسلع المقلدة.. كل ما تطلبه موجود فور وصولنا إلى سوق أسيهار المشهور بالمنطقة، وجدنا فيه كل شيء وبأبخس الأثمان، من ألبسة وأجهزة إلكترونية ومنتوجات تقليدية وسجائر وأحذية ومواد غذائية، سواء المحلية أو الإفريقية، لكن أغلبها مقلدة، وعند مرورنا ببعض الباعة الذين يبيعون الفواكه والمكسرات على الطاولات، قال أحمد إن “هذه الطاولات هي مصدر الخطر على أبنائنا، حيث يتم اصطياد الشباب للدخول في عالم المخدرات من خلال حقن الفواكه بمختلف المخدرات وبيعها للضحية المتردد عليهم وعند الإدمان يستغلونه في العمل معهم، وهناك العشرات من الشباب وقعوا ضحايا لذلك.. إضافة إلى مطاعم الرعايا الأخرى التي تشكل خطرا كبيرا من خلال أنواع السحر أو إدخال الشخص في عالم المخدرات والدعارة”، ورغم مجهودات مصالح الأمن، إلا أن الشبكة في كل مرة تغير من حيلها وطرقها عند اكتشافها. كما أشار “أحمد” إلى أن ظاهرة التسول بتمنراست بواسطة الصحون للأطفال والنساء والعجزة والمعوقين تتحكم فيها منظمات خطيرة تتاجر بهم وتستغلهم أحيانا حتى في المخدرات والدعارة. أما التهريب فقد أكد عمي علي أنه تناقص مقارنة بالسنوات الأخيرة، خاصة منذ مجيء الوالي الجديد، ولا تزال عمليات التهريب مركزة على المواد الغذائية المدعمة والبنزين من خلال مسالك خاصة بالمهربين. سوق غيموازية لبيع سيارات المغتربين بأسعار زهيدة بعد إدخالها من النيجر في حظيرة فوضوية بمدخل سوق أسيهار الذي يعني بالترڤية الملتقى، وجدنا سيارات من كل الأنواع، لا سيما رباعية الدفع، تباع بأسعار زهيدة تتراوح بين 40 و80 مليون لسيارات أسعارها الحقيقية بين 120 و400 مليون سنتيم، والسر في ذلك أن المغتربين من مختلف ولايات الوطن يستقدمون سيارات سياحية من مختلف الدول، ولكي يبيعونها يقومون بالتنقل إلى هذا السوق لبيعها لتجار معروفين، حيث يتنقل البائع والمشتري إلى الحدود النيجرية القريبة، وعند المرور يتم إخراج سيارة المغترب من جواز السفر ليتركها له ويعود أدراجه، في حين يقوم المشتري بتسوية وثائقها ثم يعود إلى تمنراست بسيارة جديدة وهكذا دواليك. تمنراست بدون نقل حضري.. ولا غاز للمدينة المتجول في شوارع مدينة تمنراست يلمس لأول وهلة انعدام حافلات النقل الحضري، واعتماد السكان في تنقلاتهم على بضع سيارات أخرة، وأخرى “فرود” وبسعر 50 دج، حتى ولو كانت المسافة 10 أمتار، وهو ما زاد من تذمر السكان ونغص عليهم تنقلاتهم، أما التجارة فيتحكم فيها شباب الشمال من جيجل وسطيف وتيزى وزو وباتنة وغيرها، وإن الحركة التجارية تغلق أبوابها يوميا من الساعة االواحدة زوالا إلى غاية الرابعة مساء، وهو ما يعيق التحرك الإيجابي للأجانب السياح، ويضاف إلى كل هذا غياب شبه كلي للأنترنت، وإن وجدتها فهي بتدفق بطيء جدا وبسعر 120 دج للساعة الواحدة. ما سجلناه أيضا هو افتقار المنطقة لغاز المدينة، والذي قيل لنا إنه سيصل المنطقة في مارس المقبل، بعد الانتهاء من مشروع القرن لتزويد تمنراست بالماء الشروب وغاز المدينة انطلاقا من عين صالح على بعد حوالي 800 كلم، وهو من أكبر المشاريع التي يتابعها رئيس الجمهورية شخصيا. شباب تمنراست متعطش لثقافة الآخر.. وللمتعة أيضا ما سجلناه أيضا من خلال نشاطات الوفد الجيجلي بدار الثقافة والساحة المركزية من حفلات فنية وأمسيات شعرية ومعارض متنوعة للحرفيين والرسامين، ذلك الإقبال من طرف الشباب التمنراستي المتعطش لثقافة بلاده من خلال محاولة التعرف على عاصمة الكورنيش وتاريخها المتجذر في الحضارات، والتمتع برقصات ليلية على أنغام أصوات شابة دون الحديث عن التواصل المثير بين شعراء البحر والصحراء، واستضافة الشاعر دردوح لعدة شعراء جواجلة في بيته، كما استضافتنا عائلة بكاي ببيتها وتناولنا طبقا من الفتات التقليدي المشهور عندهم، وعشنا تقاليد الأكل الجماعي على الزربية، وكذا الشاي بمراحله الثلاث.. وهو ما يثبت كرم وجود أهل الصحراء. الهڤار، التيندي.. وأسكرام تيليسكوب طبيعي لأحسن شروق وغروب شمس تمنراست مشهورة بمعالمها السياحية، وهي جنة للجيولوجيين من خلال الآثار الموجودة بالمنحوتات البركانية، كالجبال التي تشكل أشكالا حيوانية وإنسانية وطبيعية ساحرة انطلاقا من موقع الطاسيلي، الأهڤار، الذي يلزم الزائر مدة أسبوع لزيارتها، وقد تم غلقه مند فيفري الماضي لأسباب تبقى مجهولة، خاصة لعدم التحكم في مساحته الشاسعة ووقوع العديد من حالات التيهان والفقدان لسياح أجانب. أما الجبال المطلة على المدينة، والتي يستغرق الزائر لها بضع دقائق، فنجد جبل الهڤار المشهور، والذي يبعد بحوالي 8 كلم جنوبا، ويسمى بلهجة التوارڤ “إهاغن” والتي تعني المهراس، وتفيد معلومات بأن سائحا أجنبيا فرنسيا قام في السنوات الماضية بمحاولة لتسلقه إلا أنه سقط وتوفي بعين المكان بالقمة ما استلزم استعمال المروحيات لانتشال جثته. وبجانب الهڤار ينام جبل آخر عملاق يسمى “التيندي”، ويعني يد المهراس، لكون الجبل يشبه كثيرا الأداة، كما يشبه أيضا آلة موسيقية تستعمل كثيرا في المنطقة. وعلى بعد بضعة كيلومترات تجد منطقة أفيلال، وهي واحة خلابة بها بحيرة بها أسماك مختلفة، يستعملها الرعاة في التزود بالماء ورعي أغنامهم وجمالهم، وهي منطقة ساحرة تستقطب السياح إليها، وعلى بعد 80 كلم تجد جبل أسكرام المشهور عالميا، والذي يعني القمة الباردة، ويبلغ ارتفاعه 2780 متر، ومن هناك يمكنك أن تشاهد أحسن شروق وغروب شمس في العالم. يبقى أن نقول في الأخير إن تمنراست جنة ساحرة، تبقى بحاجة إلى تفعيل واستغلال طبيعتها الساحرة ومواقعها التاريخية والأثرية والطبيعية في ترقية السياحة الصحراوية الجزائرية، دون الحديث عن القضاء على الآفات الاجتماعية التي تفتك بشباب أصحاب اللثام الأزرق الأبرياء. روبورتاج: ياسين بوغدة