لم نتصور أن أول صور شاهدناها في إحدى ساحات دمشق لا يمكن أن توحي إلا بالخوف، كانت لعشرات من الأشخاص تجمعوا وبدأوا يحتجون بصوت رفيع: “الشعب السوري ما بينذل”، ثم جاءت سيارة وظهر منها مسؤول رسمي بوجه عابس، وفجأة صرنا نسمع الجمهور يقول: “بالروح بالدم.. نفديك يا بشار”! أحد الزملاء، ونحن نفحص الفيديو لنرى إن كان يوحي ببداية ثورة، قال لي: صدقني.. سوريا ستكون آخر بلدان العالم التي يتجرأ شعبها على تحدي النظام، وهو أكثر أنظمة العالم قسوة وأشهرها بأجهزة أمنه ومخابراته. لكن بعد أيام ثارت بلدة حدودية. في 18 مارس انتفض أهل درعا عندما علموا أن المخابرات السورية اعتقلت وعذبت أطفالهم لأنهم كتبوا على أحد الجدران عبارات مسيئة للنظام والرئيس. فقامت السلطات السورية بقمع الأهالي. ولأيام متتالية تابع العالم انتفاضة هذه البلدة التي حيرت النظام الذي ظن - لكونها بعيدة - أنه لن يدري عن أفعاله شيئا، وظن أنه سيجعل منها درسا لبقية المدن والقرى. وفي بداية كل أسبوع كان يظن أن الاحتجاجات ستنتهي بسبب كثرة القتل والاعتقالات. ثم اتضح أن عامل الخوف قد كسر. ومنذ ذلك اليوم وأبواب جهنم تفتح على النظام الذي لا يدري في أي اتجاه يمكن أن يتحرك، فمن درعا في أقصى الجنوب، إلى تلكلخ على حدود لبنان، إلى قامشلي حيث الأكراد، وحديثا جسر الشغور المجاورة لتركيا. في 3 أشهر خطب الرئيس بشار الأسد لشعبه مرة واحدة، وشاهدوا مسرحا رخيصا يقوم أثناءه أحد النواب - الذي يفترض أنه منتخب من الشعب - فيخاطب الرئيس بقوله: “إن زعامتك للعالم العربي لا تفي بحقك، بل أنت زعيم العالم”. لكن كل جمعة جديدة كانت تثبت أن زعامته تتقلص مدينة بعد مدينة ومنطقة بعد أخرى. وبعد 90 يوما من انتفاضة درعا، ما الذي يمكن أن نتنبأ به للنظام؟ هناك احتمال أن يسقط سريعا خلال أسابيع، خاصة إن صحت روايات الانشقاقات داخل الجيش. والاحتمال الآخر: أن يسقط متأخرا، مثلا في نهاية العام، أو مطلع العام الجديد. والثالث: أن يكون هناك تغيير من داخل النظام، أن يتخلص الرئيس من الرموز السيئة، مثل أخيه ماهر، فيقبل الناس أكباش الفداء. أو أن يحدث تغيير من داخل النظام، ومن خارج الأسرة، بقيادات عسكرية تهدئ من غضب الشارع السوري. والاحتمال الأخير هو: أن ينجو النظام برفع وتيرة القمع أو لأن المظاهرات السلمية استهلكت طاقتها. وفي الحالات كلها النظام ضعف، إن لم يكن قد سقط. ويُلام النظام الحالي لأنه عجز عن إدارة أزمته ومعالجة الاحتجاجات. أعتقد أن النظام السوري تعمد رفض الاستجابة للاحتجاجات، على الرغم من أنها سلمية، ومطالبها في الأسابيع الأولى كانت إصلاحية فقط؛ لأنه كان يظن أن الاستجابة تعني الضعف. وبالتالي، اختار أن يظهر النظام قويا عنيدا وكلمته فوق كلام المعارضة. كان يخاف من النموذج المصري؛ حيث إن الرئيس السابق حسني مبارك كان كلما قدم تنازلات زادت المطالب والمظاهرات حتى سقط. وهذه مقارنة خاطئة؛ لأن النظام في سوريا كتلة واحدة، أجهزة الأمن والجيش ملتصقة تماما بالقيادة، بخلاف الوضع في مصر. لو أن الرئيس السوري قدم إصلاحات حقيقية: فتح الباب للأحزاب الأخرى وكسر احتكار حزب البعث، وسمح بانتخابات حقيقية للبرلمان، وأطلق سراح المساجين السياسيين، ربما كان حظ النظام أفضل. كان بإمكانه عندما يواجه المتظاهرين بالقوة أن يدعي أنه قدم كل ما يمكنه تقديمه ولم يعد أمامه من خيار آخر. اليوم، سوريا بلد مصدوم من حجم القتل والكذب الرسمي، ولن يفيد فيها أي إصلاح، ولن ينجو النظام إلا بمعجزة ما. وكما نرى فإن ارتفاع حجم المظاهرات وانتشارها في كل مكان من البلاد أرهقا النظام، وهذا ما يجعلنا نصدق أنه صار مضطرا للاستعانة بقوات ومساعدات من الخارج لممارسة المزيد من القمع. لكن مهما جلب من إيران وحزب الله لن ينفعه في مواجهة 20 مليون مواطن تحرروا من الخوف، في بلد يقوم أساسه على عامل الخوف وحسب. بقلم عبد الرحمان الراشد