راس جدير .. معبر الحياة هاهو حارس البوّابة الأولى يستقبلنا بحزمة أسئلة، وهو يقلّب جوازات سفرنا، القانونية، يبدو سئما وفاترا من رتابة المكان الهادئ، على عكس ما كنا نتوقّع. سلمنا جوازاتنا، وتمنى أن “الله يسهل علينا”.. على البوابة الثانية، اكتشفنا أن الرتابة التي تركناها في البّوابة الأولى؛ ماهي إلا ترحيب صامت من عون أمن يحسده زملاؤه الليبيون في البوابات المتقدمة، على راحته، حيث تشهد أكشاكهم، حركيّة كبيرة خصوصا من جهة الدخول إلى الأراضي التونسية. كانت الساعات الروتينية التي قضيناها مع إجراءات ختم الجوازات، كفيلة بإعطائنا فكرة عن أزمة مواد التموين وندرة البنزين في الأراضي الليبية، حيث يمتدّ طابور لا منتهٍ من السيارات الليبية المحمّلة ببراميل ودلاء فارغة، في طريقها إلى الامتلاء من محطات تونس والعودة بعد ساعات قليلة إلى ليبيا، بمعية مواد استهلاكية مختلفة. في بوابة راس جدير، يلقّى جواز السفر الجزائري احتراما كبيرا، ويكفي أن تقفز من لسانك كلمات باللهجة الجزائرية حتى تُقابل بالترحيب والسلام.. يقول أحد أعوان التخليص الجمركي، وهو يجتهد لتخليص إجراءات دخولنا بسرعة :”اشكروا الجزائريين على موقفهم المشرّف تجاه ما يحدث في ليبيا، نعرفكم رجالا ولا تحبّون الناتو”.. لم نعلّق على كلام العون، واكتفينا بالابتسام. حكايات السائق الأخضر برائحة البنزين الساعة الثانية زوالا، تحت سقف بوابة راس جدير، هاهي السيارات المحمّلة بالمؤونة والبنزين، تعبر المعبر الحدودي من الجهة المعاكسة نحو بيوت الليبيين. لم يكن صعبا علينا أن نحظى بمكان في سيارة مواطن تبيّن لنا من لوحة ترقيم سيّارته أنه متّجه إلى طرابلس العاصمة، التي تبعد عن معبر راس جدير بحوالي 170 كلم، لم يمانع محمد ومرافقه تاج، وهما شابان في ثلاثينيات العمر، في أن يقلّنا إلى طرابلس، لنجد أنفسنا محمّلين مع كراتين مواد غذائية ودلاء بنزين.. لم ينتظر محمد كثيرا، قبل أن يفتح نافذة الأسئلة عن مغزى سفرنا إلى طرابلس في هذه الظروف الاستثنائية، مبديا سخطا كبيرا على ما آلت إليه الأمور في بلده، بسبب ما وصفه، ب”حماقات المغرّر بهم”.. بدا جليا لنا أن محمد ومرافقه، كانا أخضري الهوى، ورغم أنهما لم يعرفا بهويّتنا المهنية، إلا أنهما أطلقا العنان، لتشريح الوضع الليبي، والحديث عن “الشعب الصامد في وجه العدوان الصليبي، وعن النصر أو الشهادة في سبيل حماية الجماهيرية من أطماع الغرب وجنون المتمردين”.. وفي هذا الصدد وجد محمد في منطقة “زليطن” التي مررنا عليها في ثاني محطاتنا الليبية، مثالا على “عبثية قصف الناتو، وتجاوزات المتمردين”.. وفي الوقت الذي كانت فيه رائحة لترات البنزين المنبعثة من صندوق السيارة الخلفي، تعبر أنوفنا، لمحت أعيننا طوابير كيلومترية، لسيارات تنتظر نصيبها من البنزين، وهي مصطفة على حواشي الطريق السريع.. يقول تاج، مرافق محمد، إن بعض المواطنين يبيتون في هذه الطوابير ما بين أربعة إلى تسعة أيام من أجل الظفر ببعض لترات من البنزين، وهي سابقة - يضيف تاج - لم تحدث مع المواطن الليبي من قبل، ويضيف عليه محمد قائلا:”لطالما كان التونسيون هم الذين يحملون بنزيننا إلى بلدهم، وها نحن اليوم، نسافر من أجل بنزينهم”! وفي مقاربة أعقبها بكثير من السخرية يقول محمد:”اشتريت اليوم من جرجيسالتونسية 200 لتر من البنزين مقابل 400 دينار ليبي، هل تعرفون كم كانت ال 400 دينار ليبية قادرة على شرائه من بنزين؟؟” ويجيب محمد نفسه بعد عملية حسابية ذهنية :”قبل خمسة أشهر، كانت ال 400 دينار ليبي تشتري لنا في ليبيا حوالي 6000 لتر من البنزين”.. يسكت محمد قليلا بعد أن أفرغ بعض السخط على مصطفى عبد الجليل وأتباعه، قبل أن يسمح لصوت جورج وسوف؛ بالانبعاث من قارئ السي دي في سيارته، وهو يغنّي “لسّه الدنيا بخير يا حبيبي..” يتكفّل تاج بالنيابة عن محمد، الذي أفرغ حمولتهم من السخط، ليحدّثنا عن مجمّع صناعي بمنطقة “مليطة”، التي نمر بها، تبدو عليه مظاهر الجمود. يقول تاج:”هذا المجمّع المهجور كان إلى زمن قريب أهمّ مورّد للغاز المميع نحو إيطاليا، باتفاقية مباشرة بين القايد وبرلسكوني، وهاهو اليوم كتلة هامدة، مثله مثل الكثير من المجمّعات الصناعية التي أطفأت محركاتها، وتكبّدت خسائر بملايير الدولارات”. صبراتة.. الكتابة بالرصاص وذكرى الجزائريين غير بعيد عن “مليطة” تستقبلنا “صبراتة”، رابع محطاتنا في الأراضي الليبية، بعد محطات “زليطن”، “رقدالين” بالإضافة إلى “الزوارة” ذات الأغلبية الأمازيغية.. مشهد طوابير السيارات أمام محطات البنزين لا يزال يتكرّر في كل بلدة ندخلها عبر الطريق إلى طرابلس، كما تتكرّر حواجز الأمن والجيش الليبيين، تحت الرايات الخضراء دائما، في إشارة إلى أن هذا الطريق المفتوح على الجهة الغربية، خارج عن طائلة قوّات المعارضة الليبية، التي وجدت في الجبل الغربي والمنطقة الجنوبية قواعد لها، حيث نجحت قوات الجيش الليبي في دحرها من كامل مناطق الساحل الغربي، رغم بعض محاولات التوغل، التي خلّفت بعض آثار رصاصها وقذائفها على جدران البيوت والمحلات الليبية، مثلما تركت طائرات الناتو على جوانب الطريق بعض مخلفات قصفها السابق على شاحنات عسكرية ومدنية وبعض أكشاك التفتيش الأمني. يخرج محمد من جوّ جورج وسوف، ليعود للحديث مجددا عن ما أسماه ب”المؤامرة التي تموّل حملاتها بأموال الخليج”، ويعاضده صديقه تاج بالصمت وهزّ الرأس. صبراتة مدينة الجزائريين، يقول محمد، ثم يسترسل “قبل خمسة أشهر كانت هذه المقاهي والمحلات المتلاصقة قبلة للجزائريين، الكثير منهم عادوا إلى بلدهم بعد تطور الأحداث، ومنهم من ترك ممتلكاته ورحل.. لكن في طرابلس ما زال هناك جزائريون بعوائلهم، يزاولون أشغالهم جنبا إلى جنب مع الليبيين، رافضين التفريط في ما اكتسبوه طيلة سنوات تواجدهم في الجماهيرية”. يسحب محمد رفعة من كيس “الشمة” ويغرسها تحت شفته العليا؛ ثم يجدّد الترحيب بنا في ليبيا، قبل أن يفتح نافذة الأسئلة من جديد، عن سبب دخولنا إلى طرابلس. نجيب بكثير من التحفّظ، ونحن نوزع نظراتنا على واجهات البيوت والمحلات التي كتبت عليها ثقوب الرصاص، بعضا من فصول الحرب. الزاوية.. لا تزال خضراء هاهي “الزاوية” تستقبلنا بصيتها الذي سبقها عبر أخبار الفضائيات وتقارير الحرب. كنا نعتقد أنها منطقة تقبع تحت علَم المجلس الانتقالي، لكن الرّايات الخضراء كانت المسيطرة على المكان، وكانت صور العقيد الليبي، على اختلاف أحجامها، موزعة على جوانبها. يقول محمد إن اشتباكات طاحنة حدثت هنا قبل أسبوع، بين قوات المعارضة وبين قوات الجيش، لكن الجيش الليبي استطاع أن يسيطر على الوضع، بمعية أهل البلدة الذين خرجوا في مسيرات بالآلاف معلنين ولاءهم “لله ومعمر وليبيا وبسّ”. تتقلّب الأفكار في أذهاننا عن بروباغنادا الحرب وما تنقله إلينا الفضائيات من صور السيطرة الانتقالية، على الأراضي الليبية، وهو ما لم نقف عليه منذ انطلاقة رحلتنا من راس جدير، لكننا في هذه اللحظات أجّلنا حكمنا إلى غاية محطتنا الأخيرة طرابلس العاصمة التي قالت مذيعة قناة الجزيرة أمس، إن سماءها تمطر قصفا. على مشارف عاصمة حرب كيلومترات قليلة ونحط الرحال بطرابلس، مع الكثير من السيارات التي لم تمنعها أزمة البنزين المفقود، من مسح الطرقات.. هذه البنايات الحديثة والطرقات المحفوفة بالشجيرات الصغيرة المرتّبة، تشير إلى أننا اقتربنا من العاصمة. نقلب أبصارنا في السماء علّنا نبصر طائرة ناتو أو بعض قنابل القصف، لكن عيوننا تعود فارغة إلا من سماء زرقاء. نسأل محمد عن أخبار القصف، فيجيبنا بكثير من التبسيط :”عادي؛ تعودنا على أصوات أزيز الطائرات، وصوت القصف”. هل نحن أخيرا؛ على مشارف عاصمة بلد يعيش يوميات الحرب ؟؟ سؤال سنترك الإجابة عنه في تقاريرنا القادمة، بعد أن تحط بنا سيارة محمد في قلب طرابلس.. على أمل أن لا تتحقّق تخمينات نادل المقهى في جربة.. الحلقة الثانية.. مبعوث “الفجر” إلى طرابلس: رشدي رضوان