دوي الانفجارات كرنّات الهاتف في طرابلس لم أكن أتصور أن أجد في ليبيا من لديه الوقت للاستجمام على شاطئ البحر، بينما طائرات الناتو تتجهز للقصف مع كل مساء. ولم أكن أعرف أن ''الشابة الزهوانية'' لها عشاق في ليبيا، وأولهم السائق الليبي الذي رافقني في الرحلة من جربة التونسية إلى طرابلس. ولكن من جهتي، كنت بكل تأكيد أعرف أن الرحلة إلى طرابلس ليست نزهة سياحية. مدينة بن قردان التونسية القريبة من الحدود التونسية الليبية التي شهدت فصولا من الثورة التونسية، استسلمت لتجارة تهريب الوقود على الحدود مع ليبيا، في ظل أزمة الوقود الحادة. وعلى طول الطريق الممتد على كيلومترات، تظهر بوضوح حركة كثيفة لسيارات ''404 باشي'' المعروفة عندنا، إلى جانب الشاحنات والجرّارات. وبالإمكان أيضا رؤية منازل على طول الطريق، تضع أمامها عشرات الخزانات ذات السعة المختلفة لتخزين وبيع الوقود بنوعين: المازوت والبنزين الأصفر. على الحدود مع تونس وقبل الوصول إلى معبر راس الجدير من الجهة التونسية بحوالي خمسة كيلومترات، تلفت انتباهك عشرات الخيم المنصوبة على اليمين من الطريق المؤدي إلى المعبر. وعندما تقترب، ترى أن المخيّمات هي للائجين الذين فرّوا من لهيب الأزمة في ليبيا. وطبعا، كنت قد تحدثت مع بعض المواطنين التوانسة عن هذه المشكلة، فعبروا عن تذمرهم من طول أزمة اللاجئين التي تدخل شهرها الرابع أو الخامس، وقال لي أحدهم إن ''جزءا من السلع والمواد الغذائية يتم توجيهها لهم من طرف السلطات التونسية''. وفي عين المكان، تعبر الحالة عن وضع معيشي صعب جدا، حيث يوجد بين اللاجئين من لا يملك لا المال ولا الرغبة في العودة إلى وطنه، لأن أغلبهم جاؤوا إلى ليبيا بحثا عن الحياة الكريمة التي افتقدوها في بلدانهم. وبسبب مخطط الرحلة، كان من الصعب التوقف عندهم كثيرا. وعندما وصلنا إلى البوّابة الحدودية براس الجدير في حدود العاشرة وبعض الدقائق، وجدناها شبه خالية من العابرين القاصدين لليبيا، والظاهر أن أغلب الداخلين هم مواطنون ليبيون خرجوا للحصول على التموين من مدينتي بن قردان وجرجيس التونسيتين. على الجانب الليبي من معبر راس الجدير، تشعر بسهولة بأنك قد دخلت التراب الليبي من خلال أشياء كثيرة، أبرزها صور العقيد معمر القذافي المنتشرة في المعبر، إلى جانب الرايات الخضراء. وفي وجوه الناس، تقرأ مسحة من الحزن الممزوجة بالحزم، حيث يوجد جميع موظفي المعبر في حالة تأهب لمراقبة الوافدين والمغادرين. وهناك ملاحظة أخرى تخص انتشار السلاح بكثرة بين أيدي الموظفين، بما يعكس حالة التأهب الأمني في ليبيا. وعلى عكس الطرف التونسي، أخذت الإجراءات الإدارية لدخول التراب الليبي أكثر من ساعة زمن، وجدنا خلالها الفرصة للحديث مع عدد من المواطنين التونسيين المناصرين للقذافي، وهم يقطنون في مدينة بن قردان. في البداية، اعتقدت أنهم ليبيون، خصوصا أن أحدهم اختار كلمات القذافي الشهيرة ''زنفة زنفة بيت بيت'' رنة لهاتفه النقال. لكن، تبيّن لي فيما بعد أنهم تونسيون، بعضهم عاش وعمل لسنوات في ليبيا، غير أنهم خرجوا منها بعد اندلاع الأزمة. وقد اتفقوا على العودة إلى طرابلس لحضور التجمع الكبير في الساحة الخضراء بعد صلاة الجمعة، تعبيرا عن تقديرهم الكبير للقذافي. وجرّ الحديث بعضه بعضا مع أحد أفراد هذه المجموعة الذي كشف لي أنه عاش في ليبيا 31 سنة كاملة، وبدا ملما بالمخاطر الأمنية الكبيرة التي ترافق التدخل العسكري على ليبيا، كما ظهر ملما بعقلية المواطن الليبي، حيث قال لي ''لقد أحيت حملة الناتو على ليبيا هذه الأيام الروح الوطنية لدى المواطن الليبي، وجعلته يدافع عن أرضه بشكل غير مسبوق''. وحّدتهم ''الكلاشنكوف'' وفي الطريق إلى طرابلس العاصمة، التي تبعد بحوالي 180 كلم عن معبر راس الجدير، لا تغيب ملامح الدولة ورموزها حتى تعاود الظهور، حيث تنتصب عشرات الحواجز الأمنية على طول الطريق الرئيسي المؤدي للعاصمة، وهو طريق يمر بمدن ذاع صيتها في وسائل الإعلام الدولية، على غرار ''زلطن''، و''الزوارة'' و''صبراتة'' و''الزاوية''. وفي المشهد، يمكن رؤية سيارات خاصة وشاحنات نقل تسير في الاتجاهين بترقيم ليبي، لا يوقفها إلا رجال الأمن، بعضهم بزي الجيش الليبي والبعض الآخر بزي الشرطة والبعض الآخر بزي مدني. ولئن اختلف اللباس، فسلاح ''الكلاشنكوف'' هو الموحد بينهم، والذي يحمله الكل. ومن خلال ملاحظتنا في الطريق المؤدي إلى العاصمة، فعملية المراقبة تجري بشكل دقيق فعلا، ويجري فيها استعمال الهاتف النقال بشكل كبير للتحقق من هويات البعض، وتزين بعض الحواجز الأمنية صور العقيد معمر القذافي وشعارات مساندة له من قبيل ''الله ومعمر وليبيا وبس''. وللأمانة التاريخية، لم ألاحظ في مدن ''زلطن'' و''الزوارة'' و''صبراتة'' و''الزاوية'' أية حركة غير عادية تدل على وجود أزمة أمنية، كما لا توجد مشاهد خراب أو دمار. وربما لأن اليوم كان جمعة، فقد بدت الحركة بطيئة، ما عدا وقت آداء الصلاة. بالنسبة لنا، استمعنا لخطبة الجمعة من خلال أمواج الإذاعة الشبابية الليبية. وخلال الخطبة، فتح الإمام النار على حلف الناتو، وعلى رموز المعارضة في بنغازي، وعلى أمير قطر وأمير الإمارات العربية المتحدة، وكذلك الرئيس الفرنسي. لقد ذكّرتني هذه الخطبة بأجواء الحربين الأولى والثانية على العراق، خصوصا أن الطريق الذي كنا نسلكه هو طريق صحراوي، ويشبه مثيله الرابط بين عمان وبغداد. البنزين.. زيادة في الطوابير واستقرار في الأسعار ومن جهتي، كانت تشدّني في الطريق أسماء المدن التي تردّد اسمها كثيرا في وسائل الإعلام، خصوصا مدينة ''الزاوية''، ويمكن القول إن هذه المدينة لها وزنها وتظهر أنها مدينة كبيرة، ولهذا، كان حضور قوات جيش القذافي بارزا أكثر. وهي المدينة التي شاهدنا فيها أيضا خروج مواطنين ليبيين بسياراتهم وهم يلوحون بالأعلام الخضراء، وقوات العقيد توزع عليهم صوره للاحتفاء بها في مسيرة الساحة الخضراء. ومن بين المشاهد البارزة في يوميات الليبيين تحت الحرب طوابير السيارات في محطات البنزين، فقد يصل طول بعض هذه الطوابير كيلومترا أو أكثر. وأمام أزمة التموين بالبنزين الناتجة أصلا عن الاضطراب الحاصل في إنتاج النفط، لجأت الحكومة الليبية إلى منح المواطنين وصولات للتموين بالبنزين مرة كل أسبوع. ورغم الأزمة، لم يرتفع سعر البنزين في العاصمة طرابلس، حيث يبلغ سعر اللتر الواحد 15 قرشا. ولا أخفي أنني كنت أستبق الزمن لدخول العاصمة طرابلس، لأرى آثار حملة شمال الأطلسي عليها وعلى سكانها. وكان أول ما فاجأني رؤية جموع من سكان العاصمة يتمتعون بزرقة البحر في الشاطئ القريب من الفندق الذي أقمت به. لقد صعب عليّ تقبل هذه الصورة، خصوصا أنني دخلت في جو الحرب، من خلال برامج الإذاعة الليبية وحديثها عن قصف الموقع الفلاني والعلاني. وصادف دخولنا طرابلس تنظيم مسيرة كبيرة دعما للعقيد القذافي، حضرها الآلاف بشهادة العين. وخلال مرورنا على بعض الشوارع، لفت انتباهنا بعض مظاهر الدمار التي طالت مبان حكومية وأخرى مدنية. وكانت هذه المباني المدمرة هي الشاهد الأول على الحرب في طرابلس. الشاهد الثاني كان، بلا منازع، سماع دوي قصف طائرات الناتو ثلاث مرات لمواقع ليلة الجمعة إلى السبت. وعندما سألت بعض الصحفيين المقيمين في فندق ''غابة النصر'' بوسط العاصمة عن الأمر، أشار إليّ كثيرون أن صوت الرصاص والقصف أصبح مألوفا مثل رنة الهاتف بالنسبة لهم. فقد وجد صحفيون، لسوء الحظ، في الأيام الأولى للقصف أنفسهم في قلب عملية مدمرة قام بها حلف الناتو ضد باب العزيزية، حيث يوجد مقر إقامة القذافي. الواقعة حدثت عندما قصف الناتو المكان بسلسلة من القذائف المتوالية، قبل أن يتوقف لفترة قصيرة من الزمن. وخلال هذه الفترة، انتقل صحفيون عرب وأجانب إلى عين المكان لتصوير ما جرى، لكنهم تفاجأوا بضربات جوية أخرى في باب العزيزية. وبدت لي غريبة، بعض الشيء، حالة اللامبالاة لدى سكان العاصمة طرابلس باستمرارهم في السهر في الأماكن العامة، وفي الشوارع حتى الواحدة والثانية فجرا، وهو ما شاهدته بنفسي ليلة الجمعة إلى السبت. وعندما سألت، قال لي مرافقي الليبي ''لقد اعتدنا نحن أيضا على القصف بعدما سقطت علينا آلاف القذائف، ثم إننا أصحاب الأرض، وهؤلاء (الناتو) جاؤوا يعتدون علينا، فلماذا نخاف؟''.