شكرا للأنظمة الفاسدة التي قدمت بفسادها صكا على بياض للإسلاميين ليحكموا شعوبهم، وشكرا للغرب المتواطئ مع الأنظمة المستبدة لأنه أطال في أعمارها السياسية على سدة الحكم حتى "تعفنت" وملها الناس، وشكرا للشعوب مرتين لكونها صبرت على فساد أنظمتها حتى انتشرت روائح أخبار الطغيان والاستبداد وتبديد المال العام وراجت عفونات روايات القصور قبل أن تنتشر برقيات ويكيليكس لتكون أدلة إثبات ضد جرائم ارتكبت في حق الشعوب باسم المصلحة الوطنية والبحث عن الاستقرار ومكافحة الإرهاب الأصولي. فجاءت أحداث 11 سبتمبر 2011 لتفتح عيون الرأي العام العالمي على حقيقة لم تكن بمقدور جميع المؤسسات الإعلامية الرسمية إقناع الكبار بوجودها لو لم يضرب الإرهاب قمة رأس العم سام، وهي أن الإسلام ليس دينا إرهابيا، لأن الإرهاب ليس إسلاميا، فهو عدمية بلا دين، ولا لغة ولا لون، ولا عرق، ولا جنسية، ولا جواز سفر. لقد راهن الغرب على أنظمة هرمة فخسر رهاناته كلها، وكان من أخطر الأخطاء التي وقعت فيها أجهزة الرصد الغربية اعتمادها على تقارير الجهات الأمنية في كل الأقطار العربية، تلك التقارير التي كانت تتحدث عن الاستقرار والأمن وأن كل شيء تحت السيطرة، وأن الحريات مكفولة والقوانين مطابقة للمعاهدات الدولية والانتخابات نظيفة ونزيهة وشفافة بشهادة المراقبين الدوليين الذين يراقبون مدى مطابقة أشكال سير الانتخابات الظاهرة لأنهم تدربوا على هذا المستوى التنظيمي من المراقبة في المؤسسات التابعين لها، أما المضامين فهي تدخل في الشؤون الداخلية للسيادة الوطنية لكل قطر، وغفل هذا الغرب عن أمرين خطيرين : - أن وكلاءه المعتمدين في كل الأنظمة قد هرموا، - وأن ثورة الاتصال قد كشفت الخفايا. لذلك كان الغرب وأعوانه و"وكلاؤه" في المنطقة العربية، يضربون المثل في التنمية والاستقرار والسلم والتحضر والحرية والحداثة.. بتونس وهم مطمئنون إلى بلوغ قمة "التطبيع" السياسي والإقتصادي والتجاري، مع كثير من هذه الأقطار المستقرة ظاهريا، لتأمين حدود إسرائيل، وتطويع جميع دول الطوق، وأن نفط ليبيا وثرواتها صارت بأيديهم بعد اعتراف النظام الليبي بحادثة لوكربي وتعويض ضحايا الطائرة المهشمة، وأن الحرب على القاعدة قد وُكّل به علي عبد الله صالح في اليمن وتكفل النظام السوري بطي صفحة "الإسلام السياسي" والقضاء على كل ما له صلة بالتداول السلمي على السلطة "ملكية وراثية" أما النظام المصري فقد تكفل برفع فزاعة التخويف من خطف الإسلاميين للحكم..الخ، فإذا بالمثل الشائع يجري تحديدا في هذه الأقطار الآمنة وتتأكد حقيقة أن "علة الفولة من جنبها" ويجد هذا الغرب نفسه مأخوذا على حين غرة بثورة الشعوب، ويحاول التكيف مع الثورات المباغتة له في تونس ومصر ليحضر نفسه بالدخول مبكرا إلى حلبة الصراع في ليبيا واليمن وسوريا..لتنفيذ سياسة الضربات الاستباقية على قاعدة أن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم. لكنه كان هجوما مشينا، وسيبقى وصمة عار في جبين "الناتو" وفي وجه الأنظمة العربية كلها التي كشفت هجومات الناتو عن سقوط كل شعارات التنسيق والتعاون والدفاع العربي المشترك، وعرى هذه الأنظمة أمام شعوبها لتكتشف أن الحديث عن وجود جامعة عربية هو مجرد استهلاك إعلامي وأن خطابات الوحدة المغاربية هي مجرد أضغاث أحلام، وأن الشعوب العربية كانت محكومة بالإفلاس السياسي والانهيار الاقتصادي والفساد الأخلاقي والتآمر البيني.. لقد راهن الغرب على حكام من بقايا الحرب الباردة، ومدد في أعمارهم وغض الطرف عن كثير من تجاوزاتهم ضد شعوبهم ودوسهم على حقوق الإنسان وعلى جميع المفاهيم والقيم العالمية مقابل مصالحهم الإستراتيجية في المنطقة العربية التي لخصوها في تأمين خطوط النفط وضمان أمن إسرائيل، وفتح أسواقهم لتدفق فائض سلعهم لأمة تستورد الغذاء والدواء والكساء ومواد البناء، وفي المقابل عاشت هذه الأنظمة على الفزاعات الإسلامية والترويج الرخيص لمسمى الإسلاموفوبيا، فلما هربوا أو تنحوا أو قُتلوا أو سلموا السلطة تحت الضغط، وفتحت المنافسة النظيفة أمام الجميع بفرص متكافئة نطقت الصناديق باللون الأخضر، وقال الشعب كلمته، واكتشف الغرب المخدوع أن التقارير التي كان يستلمها من وكلائه في المنطقة كانت مزورة، وأن "البعبع" الإسلامي الذي كانت اليافطات الرسمية ترفعه شعارا للبقاء في الحكم بالتأبيد والتوريث كان مجرد "أوهاموفوبيا" عاشت عليها الأنظمة الفاسدة نصف قرن صدقهم الغرب فيها ووفر لهم الحماية والرعاية والحراسة ما جعلهم هم الدولة وهم الوطن، وجعل بقاءهم في كراسيهم إلى الموت هو الثابت الوحيد في كل الدساتير العربية، ولأن سنن الله قائمة على التغيير، فقد آن أوان سقوط أوراق الخريف، فالربيع قد يتأخر قليلا ولكن تناوب الفصول سوف يفرض منطق التداول.