من أجمل الكتب التي قرأتها، ووددت لو أنها أخذت حقّها من الاهتمام والقراءة ما يليق بها كتاب ”الحداثة: وصل الجسد فصل العقل” للكاتب والشاعر بشير ونيسي، الصادر عن مديرية الثقافة لولاية الوادي عام 2012. وقد تمنيت منذ قرأته لو أتمكن من تقديمه للقارئ التقديم الذي يليق به. إنه من نوع تلك الكتب التي يصعب تصنيفها رغم أن عنوانه يوحي بأنه كتاب نقدي يتناول قضية الحداثة، فهو مزيج من النص المفتوح والتأمل والنقد والفلسفة والتصوّف، كُتب بلغة أقل ما يقال عنها بأنها لغة شعرية مكثفة. تحتاج إلى قراءة عميقة لأنها غنية بمفردات العرفان والمعرفة. تشكل هواجس ومشاغل الكتاب الأساس النظري للكتابة الشعرية التي عرفت عند بشير ونيسي كما تجلّت في ديوانه ”كتاب التجلي”، ذلك أنه يمثل تقاطعات حادة مع نصوصه، تبدو معها تطبيقات نظرية للحداثة كما يراها بشير ونيسي، بما هي ”إبداع يشتهي شكلا للرؤيا، والتجلّي يريد بحريته، وشم هويته على الجسد والوجود”. قسم الكاتب كتابه إلى قسمين الأول بعنوان: شعرية المحو، وفيها يقدم لنا إضاءات إشراقية عن شعرية الفلسفة منذ سقراط وأفلاطون وأرسطو ، وليس بغريب أن تبحر الفلسفة في طقس الشعر لمعرفة كنه الوجود معتبرا أن إقصاء الشعراء من المدينة الفاضلة يعبّر عن حقيقة أن الشعر يمثل كينونة خاصة،”ومنه فقصدية النفي للشعر من طرف أفلاطون، هو عدم تطابق الخيال بجوهر المعرفة والواقع، وعليه فالشعر طقس الكينونة الغائب في عرس الفلسفة”. ولذلك فإنه يختار لنا نماذج من الفلسفات التي انطلقت من الشعر، لتصل إلى فلسفة الوجود والإنسان مثل فلسفة نيتشه وكيركجورد وبرغسون. يصدّر بشير ونيسي مبحثه عن شعرية الشكّ بالقول ”إن الشكّ هو خبز العقل في جوع المعرفة” ليعود إلى التأكيد على أن الشك منذ ديكارت وبعده هو إحدى تجليات الإبداع والحرية، وهو ما جعل الفلاسفة والشعراء يتخذونه منهجا للمعرفة والخلاص من جحيم العدم واكتشاف سرّ الوجود وجوهر الحياة. ليقدم لنا نموذجا من الفكر الإسلامي ممثلا في أبي حامد الغزالي الذي اتخذ من الشك ثورة للخلاص من نار النفس، وبه أدرك يقين الوجود. في شعرية الاغتراب يقدم لنا بشير كوجيتو مختلف هو ”أنا أفكر إذن أنا مغترب”، متتبعا مفاهيم الاغتراب في تجلياتها عبر الفلسفة والتصوف ليتوقف بالتحليل عند أبي حيان التوحيدي صاحب الأمثولة الشهيرة ”أغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه”. في شعرية الرواية يذهب بشير إلى أن الرواية نصّ ملغم بالشعرية التي تنشأ من المكوّن اللغوي النثري الذي يبعث معنى الأشياء، والكائنات والمتخيّل الذي يشكل شعرية الحياة، وقد كانت رواية ”حدث أبوهريرة” لمحمود المسعدي تجليا رائعا لهذه الشعرية التي تمثّلت التراث، وجمعت بين الأسطورة والتاريخ والفلسفة والشعر والحياة. في شعرية التصوّف يعرج بنا بشير إلى تجربة ابن عربي والحلاّج، التي تقوم على ثلاثة مفاهيم مفتاحية يمكن اختزالها في العبارات التالية ”إليه المقام، ومنه الحال، وفيه الوقت”. يقول بشير ”إن الصوفيّ لا يتم له الفتح إلا بالحبّ والشطح، ولا يتمّ له الحبّ إلا بالمعرفة ولا تتمّ المعرفة إلا بالذكر، ولا يتم الذكر إلا بالتوحيد، ليجيء الوصل وتفتّح أبواب السماء”. ليصل بنا إلى الحديث عن شعرية النور من خلال رؤية السهروردي، باعتباره إشراق الروح، والسرّ الذي يتجلى به كل شيء في الوجود. في القسم الثاني من كتابه ”الحداثة وصل الجسد فصل العقل ”يتناول بشير ونيسي بعض إشكاليات الحداثة بلغة متوهجة تنزاح نحو الفيض الشعري، لكن أهم ما يميز هذا القسم هو تبشير بشير ونيسي وتأسيسه لشكل شعري جديد هو ”القصورة” محددا ما هيتها على أنها قصيدة + صورة من اجل وضع رؤيا للحياة، أي أنها تشكيل بالكلمات وكلمات بالتشكيل. ومن جمالياتها الاعتماد على المجاز والإيجاز والتكثيف والجمع بين الوصف والكشف، وبين الهايكو وقصيدة الومضة. كتاب بشير ونيسي ”الحداثة وصل الجسد فصل العقل ”كتاب يستفزّ الحواس واليقين ويطرح الأسئلة بعيد عن الطمأنينة والعطالة الفكرية..لكن ما أوسع افقه وما أضيق هذا الهامش.. أحمد عبدالكريم