هي حرب أخرى إذن يسعى الكبار إلى إشعالها في شمال مالي. منذ أكثر من ثلاث سنوات، وأصوات عديدة في الجزائر، تصرخ معبرة عن تخوفها مما سيقع في منطقة الساحل ومنبهة إلى أن هذه المنطقة مقبلة على أوضاع أمنية كارثية. تعتمد المنظومة الأمنية عادة على أربعة ركائز أساسية هي: القوات المسلحة، الموارد المالية للدولة، القوة البشرية المتكونة والرأي العام الوطني الواعي بأهمية الأمن ودوره في بناء مجتمع سليم. كلما كانت هذه العناصر متناسقة ومتساوية من حيث الأهمية كلما تمكنت الدولة من بناء منظومة دفاعية قوية. تبين وضعية دول الساحل والصحراء، بما فيها دول غرب إفريقيا التي تقول فرنسا بأن جيوشها هي من ستتدخل عسكريا في شمال مالي، بأنها أبعد ما تكون عن الدول القادرة على امتلاك منظومة دفاعية قوية. أن دولا مثل مالي وموريتانيا والنيجر وبوركينافاسو لا يتجاوز مبلغ ما تنفقه مجتمعة على قواتها العسكرية وأجهزتها الأمنية مبلغ 160 مليون دولار؛ كما أن الميزانيات المخصصة لكل جيوش دول غرب إفريقيا الخمس عشرة (15) لا تتجاوز المليار ونصف المليار دولار سنويا؛ هذا بالإضافة إلى المستوى التعليمي المتدني والذي لا يسمح للإطارات العسكرية والأمنية لهذه الدول بالتحكم في تكنولوجيات السلاح.إلى جانب ضعف تعداد القوات العسكرية (أقل من 20 ألف فرد بالنسبة لموريتانيا و10 آلاف لكل من النيجر ومالي) وافتقارها للمعدات، يلاحظ نقص واضح في تعداد قوات الأمن ما يتناقض تماما مع كبر مساحة هذه الدول وخصوصياتها الطبيعية. مثال على ذلك: دولة موريتانيا لا يتجاوز تعداد رجال الدرك الوطني بها الأربعة آلاف (4000) رجل، وهذا التعداد لا يتجاوز الثلاثة آلاف فرد في مالي وأقل من ذلك في النيجر.هذا هو وضع القوات العسكرية وأجهزة الأمن في منطقة معرضة لكل الأخطار وتمتد، طبيعيا، حتى القرن الإفريقي وتتجاوز مساحتها الخمسة ملايين كيلومتر مربع. مقابل هذه الوضعية لجيوش وأجهزة أمن دول المنطقة فإن "قوات" الجماعات الجهادية والإرهابية تقدر، حسب بعض المصادر الإعلامية، بأكثر من ألفي فرد (حوالي 700 فرد من أنصار الدين، أكثر من 600 تابعين للقاعدة، أكثر من 300 ينتمون لحركة التوحيد والجهاد وبعض المنتمين لحركة بوكو حرام، حوالي 400 جاؤوا من أفغانستان وبعض الدول العربية وحتى من أوروبا). هذه المجموعات التي تأخذ من شمال مالي (مساحته تساوي مساحة دولتي فرنسا وإسبانيا معا) ميدانا لنشاطها وتحركاتها، منظمة في شكل مجموعات صغيرة مدربة على حرب العصابات وبعض أفرادها ينشطون في منطقة الساحل منذ عدة سنوات وتربطهم علاقات تجارية وتهريب مع بعض السكان المحليين. هم إذن على معرفة جيدة بالأرض ومتعودون على مناخها. التدخل العسكري لتأزيم الأزمة لا شك أن الدول الكبرى الراغبة في التدخل العسكري تدرك جيدا بأن كل تدخل أجنبي في أية قضية داخلية لا يحل الأزمة بقدر ما يؤزمها أكثر. الأمثلة عديدة على ذلك: الجيش الأمريكي فر من ميدان الحرب أمام الصوماليين، نفس الجيش خلق مستنقعا في العراق ثم فر منه تاركا العراقيين يتقاتلون بين بعضهم البعض؛ الجيش الأمريكي مع قوات من دول كبرى عديدة، فشل في القضاء على حركة طالبان وعناصر القاعدة في أفغانستان... هذه الدول تدرك أيضا بأن جيوش الدول الإفريقية هي جيوش ضعيفة ومهلهلة وغير مجهزة ولا مدربة على الحروب في مناطق صحراوية قاحلة ضد مجموعات إرهابية تستعمل أسلوب حرب العصابات في مواجهة الجيوش النظامية. هذا كله معروف وواضح لدى هذه الدول ومع ذلك فهي تصر على التدخل العسكري في شمال مالي، فما هي الخلفيات الحقيقية لهذا الإصرار؟ وكم ستكلف هذه الحرب ومن سيمولها؟ وأين موقع الجزائر من إستراتيجية الدول الكبرى فيما تعلق بالساحل والصحراء؟ وكيف سيكون مآل التدخل العسكري في شمال مالي؟ إذًا هي حرب لاستنزاف الجزائر الأمر بالنسبة للدول الكبرى، خاصة فرنسا وأمريكا، جد واضح وهو أن التدخل سيكون بقوات إفريقية وأن دورها (الدول الكبرى) سيتلخص في تقديم الدعم اللوجيستيكي والتقني؛ مما يعني أنها لن ترسل أبناءها ليموتوا في الصحراء الإفريقية وأنها ستكتفي بجعل هذه الحرب، إن وقعت فضاء إشهاريا بمساحة منطقة الساحل لأسلحتها وآلياتها. تعداد القوات الإفريقية التي يتكلمون عنها لا يتجاوز الأربعة آلاف فرد يتم تجميعهم من جيوش مجموعة دول غرب إفريقيا. لا شك أن آخر أمي في الإستراتيجية العسكرية يدرك، بمجرد الاطلاع على مساحة منطقة العمليات وتعداد القوة المخصصة للحرب بأنه يدفع بهذه القوة إلى الانتحار. لا يمكن تصور أن القادة العسكريين للدول الكبرى المعنية بالحرب في شمال مالي لا يعرفون كل الحقائق سالفة الذكر، ومع ذلك فهم مصممون على الخيار العسكري وتفضيله على كل الحلول الأخرى، مما يجعلنا نستنتج بأن الجزائر هي أيضا مستهدفة من خلال هذه الحرب. السعي لدفع الجزائر للمشاركة في الحرب يهدف إلى تحقيق أهداف عديدة منها: أولا: إضعاف جيشها بإغراقه في المستنقع المالي، فالحرب ستتوسع وستدوم لسنوات طويلة لأن مثل هذه الحروب من شأنها أن تستقطب كل الباحثين عن المغامرة في العالم وكل الذين يريدون محاربة من يسمونهم، في أدبياتهم، بالصليبيين وأتباعهم، وكل من يريد الشهادة، كما يقولون، دفاعا عن الإسلام. إضعاف الجيش الجزائري، الذي كثيرا ما تكلمت عنه الصحافة الإسرائيلية معتبرة إياه جيشا عدوا، إضعافه يخدم أجندات معينة معدة من سنوات للمنطقة العربية كما يخدم مصالح أطراف مغاربية لها ارتباطات مع الدولة العبرية. ثانيا: تلهية الجزائر بحرب الساحل لينفرد العرش الملكي بالصحراء الغربية فيلتهمها وقد يستعيد شهية 1963 في غياب الوحدات العسكرية الجزائرية. ثالثا: استنزاف احتياطات الصرف الجزائرية لأن للحرب كلفة معتبرة. يقول بعض الخبراء العسكريين أن حرب شمال مالي تتطلب، بتعداد 3500 فرد مبلغا يقدر بحوالي مليار دولار لسنة 2013 وحدها. ولأن هذه الحرب ستتوسع وتطول فستستهلك الملايير من الدولارات، والسؤال المطروح والذي لم يجب عنه أي أحد هو: من سيمول؟ إذا عرفنا بأن الدول الأوروبية كلها تمر بأزمة اقتصادية وأن أمريكا منغمسة في حرب أفغانستان، وأن بهذه الدول رأيا عاما يرفض تحمل تكاليف حرب تقع على بعد الآلاف من الكيلومترات. عندما نعرف كل هذا، ندرك أسباب تعدد زيارات مسؤوليهم إلى الجزائر. هذا ما أراه في هذه الحرب وأتمنى أن أكون مخطئا في تقديراتي.