تنتابك حالة من التركيز وأنت تفتح المجموعة القصصية ”كاتب الديوان” لخليل حشلاف، الصادرة مؤخرا عن دار طوى وتوزيع منشورات الجمل. تخطفك في البداية القصة الأولى، والمعنونة ”نسر بلا أجنحة”، فتعرف أنك في حضرة شاعر يتجول في العصور ويعرف جيدا أن ”صياغة الحياة شيء مزعج، لكنه يطرح الأسئلة الكبيرة ويبحث عن الذات الهائم في ملذات الدنيا، تتبع خيط السرد، تدخل إلى عالمه، تتعجب من حالة البحث أين تشدك وبعنف اللحظة التي يقول فيها:” ها أنذا أمامك يالله/ كما الصخرة/ أو كما هذه الشجرة/ أريدك أن تفتتني إلى ذرات في التربة/ كل ذرة تحملها الرياح/ وتخلقني متوحدا من جديد. تطوي المجموعة القصصية لبعض الوقت، ثم تستفيق وتدرك أن أمامك عشر قصص أخرى للدهشة. طالما نجح فن القصة في القبض على لحظات إنسانية معينة، معتمدا على التكثيف السردي من جهة، وعلى التكثيف الخاص بالوقائع أو الأحداث من جهة أخرى، ولكن الذي يحدث نادرا هو أن تتمكن القصة من تقديم لحظة صفاء روحية كاملة، حيث ندخل قصته الثانية والمعنونة بإخلاء المقسمة على قسمين القسم الأول يحملك فيه إلى عالم غير محدد ولكن الذين يعيشون فيه مطالبون بإخلاء المكان، والسبب - حسب أحدهم - أن المدينة تعيش الموت ولابد من وضع حد للموت، فالكتاب لا يصل إلى هنا وهذا من اكبر أشكال الموت، أما القسم الثاني من القصة بذات عيون الراوي الأول يواصل توضيح فلسفة الإخلاء من خلال غوص روحاني في مسجد المدينة قبل أن تتفجر المدينة وتتناثر الأشلاء، حيث يقول: ”هل كانت قنبلة يدوية أم..؟ والصراخ؟ أليس هناك دما وموتا؟ وركضت.. الرصاص من وراءى يئز.. والدم المالح في فمي.. أيها الليل كن معي، المدينة أغفلتني، وها أنا أدق، أدق من ذا يسمعني، يا الله خلصني”. قد يكون بفعل هناك إخلاء بسبب عمل إرهابي، وقد لا يكون ذلك إلا في رأس الكاتب، غير أن فكرة الإخلاء تحمل الكثير من دلالات الرفض، بل هي الرفض في صورته النهائية. من هذا الباب كانت الفكرة موفقة جدا، وتفتح بعض المواجع التي عاشتها الجزائر.. لأنه يتحدث في القسم الأول عن الإخلاء الخاص بالمعرفة، وفي القسم الثاني الإخلاء الخاص بالأجساد. أما القصة الثالثة وهي بعنوان ”ظمأ” فتقدم لنا رؤية غرامية تقليدية مفادها تلك الحبيبة التي يمنع عنها الحب، أين يتدخل أخوها ويسقط عنها صفة الحياة حبا، من هذه التراجديا حَبك خليل حشلاف النهاية التي جاءت باردة ومخيفة، لأن الحبيبة ماتت، ولم يتمكن العشيق من تقبيلها إلا برفقة غربان الموت، هل انتحرت.. هل كل هروب من الحب بالنسبة للكاتب هو موت محتم.. كل التفاصيل تجدونها في المجموعة. بعد ظمأ نصل إلى قصة ”كاتب الديوان” وهي القصة التي حملت المجموعة اسمها، عند كاتب الديوان تنتبه أن خليل حشلاف لا يدقق في الزمن ولا يضع له تصورا خاص، وإنما يفضل القفز بين مختلف الأزمان، والأهم وسط ككل هذا هو القبض على حالة روحية معينة. كاتب الديوان هو الشاعر أيضا وعلينا أن نذكر القارئ بأن الكاتب خليل حشلاف يكتب الأجناس الأدبية كلها من شعر وقصة ورواية، وهذا ما يسقط على شخص كاتب الديوان الذي ينتقل من زمن الملوك وحفنة الدراهم إلى رحلة البحث عن الروح حيث يقول:”لم يكن يخطر ببال أحد أن يخرج كاتب الديوان مفتشا عن رجل خطفه الوله إلى استجداء الطرقات ومنعرجاتها ومداخل الأحياء الشعبية ونهايتها المفاجئ، فقليلا ما يطرق الليل أحدا، لكن ذلك الرجل الذي تسلل من فتحة النافذة هاربا من أرواق كاتب الديوان على غفلة منه ضاعت من خشيته، فالطريق تلتبس بالحق وبالباطل ومن أجل أن لا يضيع بطل قصته سار في الشارع الأعظم.. ومن ضوء إلى أخر يلتفت..”. لكن الأحداث تجعل من كاتب الديوان في فوهة خيانة، والبقية الباقية هي دعوة لقراءة النص. ولعل أهم ما في قصص خليل حشلاف هو سيطرته الكاملة عليها، لأنه لا يمكننا أن نقول أن هذه القصة تصلح لان تكون رواية بكاملها، على العكس هو يدرك جيدا أنها قصة، وأن حبكتها اللحظية تريد أن تقول شيئا معينا، أو بطريقة أخرى.. خليل لا يتدرب على الرواية من خلال القصة، وإنما يكتب لنا قصص جيدة. ثلج مدينة جنوبية هي كذلك قصة قبض على حالة واحدة.. إنها تلج في هذا المكان، حيث لم يتعود الناس ذلك، قد تحدث أمور ما صبيانية ولكنها تحدث، وهنا يقول:”وشعرت أني أذوب، كنت مبهورا بألوان من الأحاسيس من العسير مناداتها، أظن أن هناك قوس قزح وتسللت، سقطت كرة الثلج”. وعليه نلاحظ مدى فرح كلمات هذه القصة، على الرغم من بعض المضايقات التي طالت العجوز والرسام والشيوعي، تأتي النهاية مباغتة حيث يقول:”دمٌ، دمٌ، السرير، الغرفة، اللوحات، من يرسم فان غوغ غيره؟”، وكذلك من يرسم بياض الثلج بهذه الطريقة غير خليل حشلاف. القصة الموالية هي ”أوراق امرأة تحتمي بأسوارها..”، وهي مجموعة من الرسائل المدسوسة في عالم الكاتب، في حين انتقلنا قصة ”طائر الليل” إلى عالم الغرائبية والجن. أما قصة ”نوابض السرير الحديدي” فتعيدنا إلى الحالة التأملية المليئة ببعض العبثية وحرية الانطلاق، على مقاس النموذج الكفكوي.. ولكن هنا يمسك بك الكاتب جيدا ولا يجعلك تتقزز من الذباب والثعابين والنمل. عسعس الليل، منازل الضوء، إطار اللوحة، لهجة صوفية مغايرة نوعا ما قد تزيد من قدرة هذا الكاتب على العبور بنا من ضفة إلى ضفة دون تعب أو كلل، أو حتى شعور بالقطع.. من جهة أخرى يصدر خليل حشلاف بالموازاة روايته ”عاصمة الجن”، عن دار طوى وتوزيع منشورات الجمل، خلال الأيام القليلة السابقة.