الثورة التونسية الحقة تبدأ من هنا، من الرصاصات التي غدرت بالمناضل الكبير ورجل تونس الحرة، شكري بلعيد. شكري بلعيد سيكون شهيد الديمقراطية الأول في تونس بدون منازع، وكل ما قبله هراء. فهو حامل لمشروع حضاري، مشروع تنويري عصري، وقتل من أجل هذا المشروع الذي حمله سنوات، وحلم مثل الكثير من التوانسة الأحرار بأرض لإثماره. ثورة الياسمين تبدأ اليوم، وكل مكوناتها موجودة اليوم، يرفعها أحرار تونس في هذه الجنازة المهيبة، لابن تونس، بل لابن كل أحرار العالم الذين يعتقدون أن ثورة تونس اليوم مثل ثورة الجزائر أمس هي ثورتهم، وهي ثورة ضد المشروع الظلامي المهرب من القرون الوسطى. لن يون شكري بلعيد آخر شهداء الديمقراطية، ورزية مشروع النهضة. قائمة المجرمين طويلة، وسينفذونها مثلما نفذ إرهابيون قبلهم قوائم أخرى ضد نخبة الجزائر. شكري بلعيد هو جيلالي اليابس، وبوخبزة، وبلخنشير وآلاف الأسماء الجزائرية التي رزيت فيهم الجزائر. القائمة طويلة في تونس، وفي مصر قوائم أخرى، فقد بدأت بعض الغربان السلفية تصدر فتاواها بقتل كل من يعارض مرسي، وهذا المدعو المفتي المصري محمود شعبان يقول أمس وكأنه يبرر مقتل شكري بلعيد من تونس، موجها كلامه إلى الرئيس المصري الذي قال هو الآخر إن طاعته من طاعة الله - قال - إذا بايعتم شخصا، وجاء شخص آخر يعارضه فاضربوا عنق هذا الذي عارضه، بل اضربوا عنق كل من ينافسه. هذا هو الإسلام المعتدل الذي وعدتنا به أمريكا، وحملته لنا الجزيرة القطرية معلبا في السم. على المجتمع الدولي أن يتحمل اليوم مسؤولياته كاملة تجاه ما يهدد تونس، وما يهدد مصر. على أمريكا التي تدعي الدفاع عن الديمقراطية أن تعي أن الشعوب التواقة للحرية في العالم العربي مهددة بالتصفية، وقد بدأت التصفية فعلا، مثلما سبق ونفذت في جزائر التسعينيات. ألم تقل هيلاري منذ أسبوعين أمام مجلس الشيوخ الأمريكي أنهم هم من صنعوا هؤلاء الذين يحاربونهم اليوم، زودوهم بالسلاح، وبالفتاوى الوهابية، وبالتمويل السعودي؟.. تعالوا خذوا لقطاءكم من بلداننا، من وسط مجتمعاتنا، أم أن الحرية والحلم من حقكم وحدكم؟! أين هم المصفقون لثورة البوعزيزي ”المزعومة”؟ أين هم من ضحكوا على التوانسة وأوهموهم بأنهم قاموا بأعظم ثورة؟ أين هم من باعوا أحلام التوانسة إلى التيار السلفي، أولئك الذين جاؤوا بالغنوشي وصنعوا منه ثائرا وصاحب قضية؟ شكري لم يقتله سلاح النهضة، ولا التهديدات السلفية وحدها، بل قتله تجار الديمقراطية المزعومة، قتلته أمريكا وفرنسا، وقطر والسعودية وكل من له مصلحة في إغراق المنطقة في الفوضى والإرهاب. شكري قتله رفقاؤه في التيارات اللائكية التونسية، لأنهم وثقوا في ديمقراطية ”السي آي إي”، وقالوا نقبل بنتيجة الصناديق والانتخابات الممولة من قطر، قبلوا بنتيجة الصناديق، فها هي الصناديق في مفهوم النهضة وميليشياتها السلفية، الصناديق التي تحمل جثامينهم، مثلما تحمل اليوم جثمان شكري بلعيد. سيتعود التوانسة قريبا على السير عبر الطرق المؤدية إلى المقابر مثلما تعودنا قبلهم، وسيصبح خطاب التأبين نسخة معدلة من الخطابات التي سبقته، وسيدخلون عادات جبانة في حياتهم كأن يضعوا مائدة الطعام قبل موعد النشرة، حتى لا تقطع أخبار الاغتيالات شهيتهم، ولن تفترق المجازر بالنسبة لهم إلا في عدد ما سقط من قتلى. أقول هذا وأملي ألا تعيش تونس ما عشناه، لكن كل المكونات لتعيش تونس ما عشناه في الجزائر متوفرة، وخاصة الميل إلى الشك في هوية القاتل، ومن يقف وراءه، ومحاولة اختلاق الأعذار للقتلة والبحث عن جناة آخرين، حتى وإن كان الجناة الحقيقيون يوقعون جريمتهم بالدم ويتبنونها أمام وسائل الإعلام بالتفاخر وبالبيانات. لن تنجو تونس من مصير الجزائر، إلا إذا اتفق أحرارها على تحديد هوية المجرم وهو واحد، هو من قتل في بن طلحة، ومن قتل في شرم الشيخ، ومن قتل وسيقتل حتما في تونس، وفي بلدان أخرى. لن تنجو تونس ما دام هناك من يعتقد أن للنهضة وأخواتها مشروعا ديمقراطيا، ويمكن أن تكون شريكا في الحكم. لن تنجو تونس، ولن ينجو أحرارها ما لم يفرقوا بينهم وبيننا، بين مشروع الموت الذين يحملونه، وبين مشروع الحياة الذي هو مشروعنا..