وفاة المناضل عبد الرزاق بوحارة، والظروف التي أحاطت بتلك الوفاة، تضعنا جميعا كمناضلين متمسكين بالجبهة ليس كتراث تاريخي وطني شعبي متذجر، ونابع من تجربة الشعب الجزائري المقاوم الحر، وإنما، كذلك، كمشروع شعبي وطني تقدمي عصري، ترسخ عبر المقاومات العشبية المتعددة ضد الإستعمار الفرنسي، والمقاومات التي سبقتها ضد الغزاة الأجانب، وضد نظام الحكام في الداخل. لقد تبلور هذا الإتجاه الوطني الأصيل من خلال الحركة الوطنية في النصف الأول من القرن العشرين، وجسدته ثورة أول نوفمبر، بكل أبعاده السياسية والإجتماعية والتاريخية الفلسفة قبلية في الميدان، هذه الثورة العظيمة الكبرى في تاريخ الشعب الجزائري المقاوم التي غيرت مجرى تاريخ الجزائر الحديث، وأعادته إلى مجراه الطبيعي في الموقع الجغرافي، وتاريخ الأحداث الكبرى التي مرت بذلك الموقع الجغرافي الثابت والحصين، هذا الخط الوطني المتصاعد قنعته ودمنته، وحافظت عليه أجيال متعاقبة من الوطنيين الأحرار الشجعان، صاغته جبهة التحرير الوطني في الميدان، وفي وثائقها وبياناتها، من بيان أول نوفمبر، إلى الميثاق الوطني 1976 وهي التي صاغت المشروع التحرري الكبير الذي أنجز منه الكثير، وما يزال الباقي تهده الأجيال الجديدة بقيادة جبهة التحرير الوطني، أسئلة كبرى تطرح على المناضلين، وليس على القيادة لأنه لاتوجد قيادة حقيقية في مستوى وحجم الجبهة، ومستوى مشروعها الوطني التاريخي الكبير، يوجد أشخاص تجاوزهم الزمن، يتصارعون حول الجبهة، وليس في ماهية الجبهة كمشروع، تعنيهم الإنتخابات، والكوطات والمناصب، والإمتيازات الشكلية أكثر مما تعنيهم الجبهة كمشروع سياسي وطني كبير، صراعات هامشية أنهكت الجبهة وأضعفتها وأدخلتها وأدخلت المناضلين في متاهات، وأنفاق مسدودة. على المناضلين الإنتباه واليقضة والتبصر والاهتمام بمصير ومستقبل الجبهة وليس بمصير الأشخاص، عليهم التفكير والتحليل والممارسة الميدانية وطرح الأسئلة الوطنية الكبرى التي تعني ليس الجبهة فقط، وإنما القضية الوطنية ككل والمزيد من طرح الأسئلة الجوهرية التي تتعلق بذلك، من مقدمتها السؤال الأساسي إلى أين تسير الجبهة وفي أي اتجاه، الأسئلة الجوهرية تتعلق بما هي الجبهة ومهامها اليوم وفي المستقبل، ما هي الثورة وأهدافها ميدانيا في الوقت الراهن؟، وقبلها ماهية الحركة الوطنية بمختلف تياراتها ومسار التاريخ، الوطني الحديث الذي أدى إلى الإستقلال الوطني، وبناء الدول الوطنية، ماهية الإستقلال كمرحلة وما هي طبيعة الدولة الوطنية ومهامها ما هي طبيعة ومضمون الجبهة وتوجهاتها الحديثة المستقبلية كدولة سياسية ومشروع؟، هل ما تزال جبهة التحرير حركة شعبية وطنية طلائعية تقدمية كما كا نت في قيادة الثورة، وفي العقدين الأولين من الاستقلال، هذه بداية المسار فما هو المآل؟ أم حركة محافظة متكدسة، ماهي مكانة الجبهة اليوم في الخارطة التاريخية الحديثة؟ ماهي علاقة الجبهة بالعدالة، اليوم؟ ماعلاقة الأزمة الجزائرية بأزمة جبهة التحرير الوطني؟، ما هو مسار الجبهة بداية الاستقلال، مسار الصعود والهبوط؟ ما هو دورها في إحداث التغيير الشامل الذي تحتاجه البلاد؟ ما هو دور الجبهة الفعلي في قيادة المجتمع سواء كانت في الحكم، أم خارج الحكم؟ لابد من الإدراك بأن أزمة الجبهة هي أزمة جزائرية، الجزائر بدأت تدخل الأزمة عندما تخلت الجبهة عن دورها الريادي في تأطير وقيادة المجتمع، وإن إخراج الجبهة من أزمتها، هو بداية الطريق إلى إخراج الجزائر من الأزمة المتعددة الأوجه التي تعاني منها لأن أزمة الجزائر الحقيقية التي تتخبط فيها لأزيد من ثلاثة عقود، ليست أزمة اقتصادية ولا اجتماعية فهي أزمة سياسية بامتياز، غياب رؤية سياسية واضحة لواقع ومستقبل البلاد، بدأت في الحكم وانعكست سلبا على المجتمع، وعلى الحياة السياسية، والفعل السياسي المحرك للمجتمع. ليست الجبهة وحدها اليوم في حاجة إلى التغيير الجذري في فكرها واتجاهاتها السياسية والإجتماعية، ورؤيتها المستقبلية للبلاد، فالجزائر كلها في حاجة إلى تغيير شامل في بنية وطبيعة الحكم ووظيفة الدولة الديمقراطية، العصرية في توجيهات النظام السياسية، الإجتماعية، الإقتصادية والثقافية فليس ممكنا أن يبقى نظام الحكم جامدا في مستوى هيكلته ونيته التنظيمية والبشرية لأكثر من نصف قرن، وكذلك أدوات، ومستوى أدائه، لأن المستوى السياسي يسير نحو التقهقر والتراجع وليس من الطبيعي أن يمس ذلك التقهقر والتراجع جبهة التحرير الوطني، الحركة الشعبية الوطنية التقدمية التي قادت الجزائر الوطنية إلى الإستقلال الكامل والناجز، وحافظت على وحدة الشعب الجزائري، ووحدة التراب الوطني ووحدة الدولة، رفعت مكانتها الدولية إلى أعلى المستويات، ووضعتها على سكة التحديث والعصرنة، الحركة الوطنية أثرت العمل السياسي الوطني العصري، حررت النظال الشعبي الوطني ثورة أول نوفمبر، أحدثت القطيعة مع الإستعمار ومع الإقطاع الجزائري المرتبط بالإقطاع الكولونيالي، وما ترتب عنه من ظلم، كما أحدثت قطيعة مع الجمود السياسي الوطني، ومع الثقافة الإقطاعية التقليدية التي تكبل المجتمع، وضعت حدا لعقدة الزعامات الفردية وفتحت الباب أمام الطاقات الوطنية التي استرجعت الإرادة الوطنية، جعلت المواطن الجزائري يسترد كرامته، سطرت أهداف المشروع التحرري الوطني الشامل ووضعت معالم جزائر المستقبل المستقلة، ووضعت ذلك المشروع بالأهداف العليا للبلد، وبالإشراك الكامل للشعب في تحقيقه، ربطته بحركة التحديث الواسعة في إطار ومسار حركة التاريخ الإنساني المعاصر، لم يكن المشروع التحرري الوطني موجها نحو الإستعمار الفرنسي وإلحاق الهزيمة به فقط وإنما كذلك، لتحرير المجتمع الجزائري من العزلة الداخلية والخارجية، وتفكيك النعرات الجهوية والقبلية، تحريره من الجمود وثقافة الخرافة العقلية والسياسية، وسياسة الدجل، التخريف والشعوذة، وذلك عن طريق بناء دولة عصرية اجتماعية ديمقراطية قاعدية، وعلى مستوى القمة، تقود المجتمع نحو التقدم وليس إلى الخلف تقوده نحو المستقبل الذي تشترك في صنعه الشعوب والأمم الحية، تجعل الجزائر كأمة عصرية حية، تشارك بكفاءة في صنع ذلك التاريخ الحي الذي يسير إلى الأمام وليس إلى الخلف، ولا يتوفر عن الحركة، دولة تحرر المجتمع من فكرة التراجع إلى الخلف، والوقوف على قارعة التاريخ متفرجا ليس عن طريق التفكير النظري المثالي المزيف ولا عن طريق السلوك السياسي المزيف، والممارسة السياسية المبتذلة المبنية على التبلعيط ووإنما على عمل سياسي عقلاني عصري مبني على رؤية سياسية عقلانية علمية واضحة يقتنع بها المجتمع ويشارك فيها ليس فقط على مستوى العمل السياسي الشعبي الإيجابي الفعال وإنما على مستوى البناء المسار الوطني المشترك بدون تردد وبدون أنانية فردية مفرطة. على جبهة التحرير الوطني، إذا أردات أن تخرج من عنق زجاجة الأزمة التي توجد فيها، أن تجدد بنفسها رؤيتها السياسية والفكرية وبنيتها الهيكلية والبشرية وبرنامجها السياسي حاليا ومستقبلا في هذا التوجه الكبير الذي سطرته الثورة، بقيادة جبهة التحرير الوطني، ليس عليها فقط أن تلتزم بإتمام انجاز المشروع الوطني الإستقلالي التحرري، وإنما عليها أن توسعه وتثريه بناء على التجربة الوطنية التاريخية الثرية وعن طريق المناضلين من الأجيال الجديدة. وعن طريق إشراك القوى الحية في البلاد، كما كانت منخرطة في الجبهة أو خارجها، وأن تعود الجبهة إلى خطها الأول كحركة شعبية وطنية جامعة للقوى الحية في البلاد، بتجاربها وتياراتها المختلفة، وليس كحزب مغلق، ضيق الأفق، هذه هي المعركة الحقيقية لجبهة التحرير الوطني، أن تجدد نفسها، وأن تعمل على قيادة وتطوير وتحديث الجزائر الوطنية المستقلة، الجبهة لا تستطيع أن تقوم بهذه المهام التي تنتظرها، وينتظرها المجتمع منها، إلا إذا قامت بتغييرات جوهرية جذرية في كامل بنياتها البشرية والهكلية، الجبهة في حاجة إلى تحرير نفسها أولا، قبل أن تسعى إلى تحرير إرادة المجتمع من السكون والجمود وسياسة الإحباط واليأس، والخوف من المستقبل التي تكبله أن تحرر هي من التكدس، والجمود الفكري والسياسي، ومن الصراعات الشخصية الهامشية الأنانية التي أنهكتها وتدفعها نحو المجهول. عليها أن تقدم رؤية مستقبلية تقتنع بها الأجيال الجديدة. الجبهة لا يمكن أن تعيش على تراثها التاريخي، هذا التراث الثري والمشروع الذي أسهمنا في إفقاره وتجريده من الجرأة والحيوية والمعنى الذي صنعته وحيزته. هذا لا يتأتى إلا إذا سلّمت قيادة الجبهة إلى قيادات وطنية واعية بالمسار التاريخي الوطني الحديث وبرهانات المستقبل والتوقف عن الإدعاء الكاذب والزعم بأن الأجيال الجديدة لا تملك الوعي الوطني الثوري، الذي يزعم أصحاب ذلك الإدعاء أنهم يملكونه ومن حقهم احتكاره، لينسى هؤلاء أن تاريخنا الوطني الثوري الحديث بني على مبادرة قيادات شابة من الأمير عبد القادر، إلى محمد بلوزداد الذي قاد المنظمة السرية وعمره 24 سنة إلى مفجري ثورة أول نوفمبر، كان أغلبهم من الشباب وكذلك الشهداء والمجاهدين الذين حرروا الجزائر. في أوساط الأجيال الجديدة من الشباب والإطارات الجامعية والإدارية الشابة المؤهلة لقيادة الجبهة وقيادة البلاد أكثر إدراكا للأزمة الجزائرية، ومواقع المجتمع الجزائري السياسي والإجتماعي والثقافي من الذي يعتقدون أنهم يحتكرون الحقيقة الوطنية والثورية في الجزائر اليوم جيوشا من الشباب في البوادي والأرياف والأحياء الشعبية، وفي عواصمالولايات شباب متعلم يبحث عن دور له في المجتمع، ومستعد للإنخراط في صفوف الجبهة، عندما تكون فيها قيادة في الجبهة تكون قدوة في الذكاء والنظافة والنزاهة. ينغبي النضال، بدون هوادة فكرة الإحباط والشك وانسداد الأفق أمام الشباب، وفكرة العجز بأن الجزائر لا تستطيع أن تفعل شيئا في هذا الجول السلبي والعمل السياسي الشعبي لإيجاد بيئة مقاومة، تضع البلد في الخط الإيجابي المقاوم لفكرة اليأس والفشل، مقاومة الممارسة السياسية العاجزة والمتخلفة التي تريد أن تجعل من المظاهر السلبية ذريعة لفشلها، والإبقاء على الوضع على ما هو عليه. معركة جبهة التحرير الحالية والمستقبلية صعبة ومعقدة، لأنها تخاض في بحر من السلبيات والمشاكل المعقدة التي تراكمت في العقود الثلاثة الأخيرة والتي أثرت على الجبهة والتسيير الطبيعي لإدارة البلاد، ولأن هذه المعركة نبيلة لأنها تتعلق ببناء مستقبل الجزائر وبصناعة التاريخ المستقبلي لها، معركة صعبة، ولكن الدفاع فيها ليس مستحيلا عندما تتوفر الإرادة الوطنية والقيادة المؤهلة فكرا، رؤية وسلوكا...