غادرتنا مؤخرا(1) في صمت المجاهدة الكبيرة نسيمة حبلال التي بدأت مسيرتها النضالية سنة 1946، بالإحتكاك مع الوسط الطلابي الوطني. وللدلالة على عظمة هذه المجاهدة تكفي الإشارة إلى شواهد ثلاثة: كانت الفقيدة كاتبة خاصة لرمضان عبان، ثم للجنة التنسيق والتنفيذ غداة مؤتمر الصومام. يقول عنها المناضل إبراهيم الشرڤي -المسؤول السياسي لمنطقة الجزائر المستقلة- أنها كانت الوحيدة التي تعرف مقر لجنة التنسيق والتنفيذ بشارع بلقاسم كريم (تيليملي سابقا)، إلى جانب القائد الشهيد الهاشمي حمود. تزوجت غداة الإستقلال البطل محمد بن مقدم، من المحكوم عليهم بالإعدام سنة 1945 -رفقة العقيد أوعمران- بتهمة التخطيط لعملية فدائية، في قلب مدرسة رشال لمختلف الأسلحة. الوعي الوطني يستيقظ أمام أبواب سركاجي الفقيدة نسيمة حبلال من مواليد 28 أفريل 1928 بحي بلوزداد (بلكور سابقا)، زاولت دراستها الإبتدائية والإكمالية من موسم 34 / 35 إلى موسم 42 / 43، هذه الدراسة توقفت فجأة، إثر تدمير الإكمالية في قصف جوي ألماني جراء نزول قوات الحلفاء بالجزائر في 8 نوفمبر 1942. اتجهت بعد هذا التوقف الإضطراري عن الدراسة إلى التكوين المهني، لتتخرج في أواخر 1944 بحيازة شهادة الكتابة على الآلة الراقنة، وبفضل هذه الشهادة اقتحمت عالم الشغل مبكرا لأسباب إجتماعية عبر بوابة الولاية العامة ابتداء من سنة 1945. عاشت الفتات ذات 17 ربيعا، جرائم 8 ماي من هذه السنة بطريقة غير مباشرة. تلقت أصداء هذه الجرائم أولا، بواسطة عائلتها بسطيف ثم اعتقال زوج أختها في تلك الأحداث وحبسه بسركاجي، كانت تزور السجين طبعا، لمده بما تيسر من المؤونة.. وتقول عن تلك المرحلة من حياتها: أمام أبواب سركاجي تعمق وعيي بحال شعبنا، وكذلك فهمي لأوضاع البلاد السياسية، فتأكدت لدي رغبة النضال في صفوف نخبة الطلائع الوطنية، هذه الرغبة ما لبثت أن تجسدت في السنة الموالية، من خلال الإحتكاك بالوسط الطلابي، وكانت محظوظة لأن اتصالها الأول تم بواسطة خلية، تضم رائدات النضال الوطني بالقصبة أمثال: ميمي بلحول / السيدية سيدي موسى فاطمة زكال / السيدة بن عصمان مميمية عيسى / السيدة شنتوف وأسند جهود هؤلاء السيدات الفضليات مناضل ميداني في حزب الشعب حركة الإنتصار، يدعى محمد عريف الذي تشيد به الفقيدة إشادة خاصة. ومن المهام النضالية التي كانت تشارك فيها يومئذ: التوعية السياسية في الوسط النسائي، توزيع صحف الحزب وأدبياته، توزيع المساعدات العينية والنقدية على عائلات سجناء الحركة خاصة. وقد أصبحت هذه الجهود الإسعافية تتم تحت إشراف ”لجان مساندة ضحايا القمع” التي تأسست في أعقاب عمليات تزوير الإنتخابات سنة 1948، ومالازمها وأعقبها من أعمال الزجر والقهر. هذا الإلتزام النضالي الوطني تجذر شيئا فشيئا، باتجاه الإختبار الثوري، كما تؤكد ذلك مساهمة نسيمة في إيواء المطاردين، بعد اإعلان عن اكتشاف المنظمة الخاصة في أواخر مارس 1950، لقد فتحت أمامهم أبواب المنزل العائلي بالحامة، هذا المنزل الذي أصبح في مطلع الخمسنيات مركز الإجتماعات دورية يعقدها مسؤولو الحركة، وكانت المناضلة الشابة بالمناسبة، تقوم برقن محاضر تلك الإجتماعات. وتذكرنا المناضلة في هذا الصدد بحادثة ڤوراية (تيبازة) التي تتمثل في اكتشاف مصالح الأمن لمركز تدريب، كانت تستعمله عناصر المنظمة الخاصة.. وتعلق على ذلك قاذلة ”فهمت من ذلك أننا مقبلون فعلا على ثورة مسلحة”. وكعامة مناضلي حزب الشعب حركة اإنتصار، عاشت نسيمة ابتداء من مطلع 1954 جوا من البلبلة تصفه بقولها ”أصبحنا لا نميز من المناضلين، من كان على حق، ومن كان على باطل”. وأصبحت القناعة العامة وسط المناضلي جراء تلك البلبلة: أن لا مخرج من الأزمة بغير الثورة المسلحة.. هذه الحالة النفسية التي كانت عليها المناضلة الشابة عشية فاتح نوفمبر 1954 تعني باختصار، أنها كانت جاهزة تماما لأداء واجبها، خلال المرحلة القادمة من الكفاح الوطني.
صدمة ”الوجه الآخر.. لنظام الثورة”! في 21 فبراير 1957، داهم المظليون منزل المناضلة نسيمة حبلال بالحامة، بعد ذكر اسمها كذا من مرة، في اعترافات عناصر شبكة الدعم الأوروبية تحت التعذيب. نوقلت فورا إلى ثكنة حسين داي (شارع طرابلس)، لوضعها على محك التعذيب بأمل الحصول على معلومات حول عبان ورفاقه، فضلا عن محمد (رشيد) واعمارة الذي قدم مسكنه مقرا للجنة التنسيق والتنفيذ. تولى هذه المهمة القذرة مظليون من ذوي القبعات الزرقاء، فقاموا بتعليقها من الراجلين، مع تسليط مختلف أشكال التعذيب البدني والنفسي عليها، واستعمال وسائل مثل الماء والكهرباء... كان الجلادو ن يعتقدون أنهم بمثل هذه الوسائل يمكنهم الوصول إلى مضيف لجنة التنسيق والتنفيذ رشيد وعمارة، علهم يقبضون على عبان ورفاقه في لمة واحدة. كانت الضحية تدرك ذلك، فتتعمد الخلط بين اسمه واسم رشيد عمارة ، فتحدثهم عن هذا سابق علاقاتها بهذا الأخير الذي كان استشهد في 14 يوليو 1956 بجبال الشريعة، مرت الضحية أثناء حجزها التعسفي ب 7 أوكار للتعذيب، منها مركز الأبيار التابع للمكتب الثاني، حيث مكثت 48 ساعة، ودار ” سوزيني” - منكودة السمعة - حيث بقيت في زنزانة أكثر من شهر، وكان يشرف على هذا الوكر مظليون من اللفيف الأجنبي. أي المرتزقة المحترفون للقتل والتنكيل.. واجهت الضحية محنتها تلك بتحد وصمود، الى أن أصيبت بانهيار عصبي، استوجب نقلها بعد نحو شهرين من اعتقالها، الى مستشفى مصطفى باشا، للعلاج تحت الرقابة الأمنية. وفي غضون الأسبوع الأول من يوليو 1957، نقلت الى سركاجي في انتظار محاكمتها.. وفي 24 من نفس الشهر مثلث أمام المحكمة العسكرية التي حكمت عليها ب 5 سنوات نافذة. بدأت فترة ما بعد المحاكمة بسجن الحراش، حيث استأنفت نضالها مع رفيقات المحنة بالمشاركة في الدعوة الى قضية الإستقلال والحرية، وفي الإضطرابات الدورية عن الطعام، دفاعا عن حقوقهن كسجينات سياسيات، فضلا عن المساهمة في التعليم والإستعلام وما إلى ذلك. كان الشاعر مفدي زكريا يومئذ بالحراش أيضا، فاستطاعت نسيمة ورفيقاتها الحصول على كراسة لأناشيد، لتعزيز دعوتهن وسط سجينات الحق العام خاصة. وقد تمكن فعلا من كسب عدد منهن، وضعن أنفسهن في خدمة ”النظام” بعد الإفراج عنهن. في مارس 1958 نقلت نسيمة الى فرنسا، رفقة 30 سجينة أخرى، حسبت أولا سجن ”لاروكات” (باريس)، ثم بمنطقة ”بروطانيا”، فسجن ران أولا، و”بعر” أثر ذلك. وفي أواخر 1960 أفرج عنها، مع الإقامة الجبرية بنفس المنطقة، بفضل تدخل الباحثة الإجتماعية جرمان تيون لصالحها، وهناك تمكنت من تجديد الإتصال بنظام اتحادية جبهة التحرير، بواسطة معارفها في الوسط النقابي خاصة، أمثال رحمون دكار ومحمد فارس. وقد تمكنت عن طريق هذا النظام من الإلتحاق بتونس، في يناير 1961 عبر سويسرا وألمانيا، وهناك اصطدمت بسرعة ”بالوجه الآخر لنظام الثورة” - الذي يختلف تمام الإختلاف عن ”الوجه العذري” الذي كان سائدا بالعاصمة قبل اعتقالها في 21 فبراير 1957. ولم تكن الوحيدة التي تصطدم بهذا ”الواقع الجديد”، فقد سبق أن عاش مثلا نفس الصدمة شاعرنا الكبير مفدي زكريا. صدمة المناضلة الكبيرة اقتضت نقلها الى ألمانيا للعلاج الهروب من ” الجو الخانق” في محيط نظام الثورة بالعاصمة التونسية.. كان ذلك في شهر يوليو من نفس السنة. وأثر العودة من ألمانيا عينت كممرضة بدشرة المجاهد، التابعة لقيادة جيش التحرير الوطني بالمناطق الحدودية... وبقيت هناك حتى مايو 1962، عندما عادت ضمنو فد طبي، وضع نفسه في خدمة الهيئة التنفيذية المؤقتة ببومرداس.. عاشت المجاهدة الكبيرة نسيمة حبلال قرابة 51 سنة في ظل الإستقلال، بعيدا عن الأظواء، إلى أن غادرتنا أخيرا في صمت، تاركة لنا ذكرى امرأة أبية عزيزة النفس، معتزة بأداء واجب تحرير الجزائر، مثل العديد من بنات جيلها...
(1) في غضون الأسبوع الثاني من مايو الجاري، (2) كان بن محمد مسؤولا عسكريا للحركة المصالية، قبل اعتقاله في نوفمبر 1955. ”أطلعت على بيان فاتح نوفمبر بواسطة محمد سحنون” فاجأت ثورة فاتح نوفمبر 1954 المناضلة نسيمة حبلال (26 سنة) وهي تستريح بحمام ملوان، فسارعت بقطع عطلتها والعودة الى العاصمة، بحثا عن جواب شاف لسؤال كبير: من يقف وراء المبادرة التاريخية بإعلان الثورة؟ كانت إتصالاتها الأولى مخيبة إلى حد ما، اتصلت بالمناضل مصطفى بن محمد (2) من مسؤولي الحركة بالقصبة، فأكد لها أن الثورة من فعل أنصار الحاج مصالي، ثم اتصلت بالمناضل الهاشمي التواتي، فلم يفدها بشيء في الحين، واعدا إياها بأنه سيخبرها بما تريد، إذا ما أطلع على شيء ما. كان عليها إذا أن تنتظر بضعة أشهر، إلى غاية استقرار رمضان عبان بالعاصمة، وتكمنه من فتح جسر مع الوسط الطلابي. وفي هذا السياق بلغتها رسالة الثورة بوضوح: بواسطة طالب كانت على سابق معرفة به، هو محمد سحنون الذي أطلعها على بيان فاتح نوفمبر، وكذلك التنظيم الصادر عنه : جبهة التحرير الوطني التي تسمع بها أول مرة بالمناسبة. وبفضل سحنون دائما، اتصلت برشيد عمارة الذي ضمها إلى خليته، رفقة طلبة آخرين أمثال: محمد لونيس، مصطفى صابر، السعيد التاوتي، علي أبوزار... وتطورت علاقتها بجبهة التحرير من هذه الخلية لتصل بسرعة إلى نواة القيادة الفعلية الجديدة للثورة بالداخل ممثلة في الثلاثي : عبان - كريم - أوعمران. لقد اختار عبان باختصار المنزل العائلي بالحامة (لاقلوريات) كأحد مراكز القيادة يستقبل فيه الشخصيات والطلبة، ليجتمع بهم، أو ليدعوهم إلى الإلتحاق بالثورة، ودعم صفوف جبهة التحرير. وما لبث أن اختار عبان كذلك المناضلة نسيمة، لرقن تقارير القيادة ومحاضر اجتماعاتها..، وفي نوفمبر 1955، كان لها أول اتصال ببن خدة الذي طلب منها المشاركة في توسيع قاعدة المنظمة النسائية - السرية- بالتنسيق مع الرائدتين ميمية شنتوف ونفيسة حمود، لما تتمتعان به من خبرة نضالية،لاسيما في المحيط النسائي العاصمي. وقد تمكنت في هذا الصدد من تجنيد الشهيدة فاطمة بالحاج أحمد، وكانت تعمل بقسم البطاقية، في بلدية الجزائر، وطلبت منها أن تضع نفسها في خدمة السيدة شنتوف. هذه الإنطلاقة النضالية توقفت فجأة - مؤقتا- في ديسمبر الموالي، إثر اعتقال عمارة رشيد وبعض رفاقه، لقد اعتقلت نسيمة تبعا لذلك، بناء على اكتشاف علاقتها بهذه الخلية... وسجنت بسركاجي نحو شهرين. لم تطل محنتها هذه المرة، لأن قريبها المحامي بن سماية استعان بنقيب المحامين مورينو، وتمكن من التخفيف عليها، بعد أن اتهمت بالنشاط السياسي المعادي، والإتصال بالفلاقة” صادف الإفراج عنها تأسيس الإتحاد العام للعمال الجزائريين، فاتخذها عبان حلقة اتصال مع عيسات إيدير شخصيا، و إلى جانب ذلك استأنفت مهمتها، على صعيد التعبئة والتنظيم في الوسط النسائي دائما. ومن المهام الدقيقة التي كلفت بها : البحث عن فتيات بشروط خاصة، لتنفيذ عمليات فدائية جرئية... وتقول في هذا الصدد: لم أجد صعوبة في ذلك، عقب انتشار الحماس لقضية الثورة، والإندفاع القوي للمشاركة فيها. طبعا لم تتوقف نسيمة عن مهمة الرقن التي توسعت إلى رقن مقالات صحيفة اتحاد العمال ” العامل الجزائري”، وبعدها صحيفة المجاهد - لسان جبهة التحرير بالداخل - التي بدأت تصدر في يونيو 1956. كانت المناضلة نسيمة تتستر على نشاطها متعدد الأوجه هذا، بالتردد على مقر اتحاد العمال بنادي التقدم، المقر السابق لحزب البيان، وعقب تأكد مصالح الأمن من علاقة الإتحاد بجبهة التحرير، قامت بنسف المقر المذكور ... فانتقلت قيادته مضطرة الى مقر مولودية الجزائر بساحة شارتر، وفي هذا المقر الثاني كانت المناضلة ” الراقنة” تداوم أحيانا حتى الثامنة مساء، فكانت لذلك كثيرا ما تواجهه وحدها مداهمات الشرطة الفجائية... وفي مطلع 1957، عندما شددت سلطات الإحتلال حصارها على العاصمة، استعانت المناضلة بعناصر من الشبكة الأوروبية الداعمة لجبهة التحرير، لإ خفاء الفدائي الطريد الشهيد مصطفى بوحيرد، الذي اختفى عقب ذلك بعض الوقت، لدى المناضلة الرائدة فاطمة زكال.