بدأ نجم عبد الحفيظ بوالصوف في التألق(*) وطنيا ودوليا، غداة انعقاد الدورة الأولى لمجلس الثورة بالقاهرة في أوت 1957. فقد أصبح عضوا في لجنة التنسيق والتنفيذ الثانية، وأكثر من ذلك أصبح عضوا في قيادة عليا فعلية هي “اللجنة الدائمة للثورة”. هذا التألق جاء تتويجا لجهوده المثمرة، في تأسيس وتنظيم المقاومة بغرب البلاد، وقاعدتها الخلفية في المغرب الشقيق. لقد وضع هنا وهناك اللبنات الأولى للأسلاك المتخصصة في جيش التحرير الوطني: استعلام، إشارة هندسة عسكرية، وأقام مراكز للإتصال اللاسلكي مرتبطة بشبكة وطنية على مستوى مجالس بعض المناطق (في الولاية الخامسة مثلا).. ودشن بفضل هذه الجهود عملية التصنت على اتصالات العدو، انطلاقا من مركزين هامين بكل من وجدة والكاف (تونس). كما برهن من جهة أخرى على عبقرية فذة في الحرب النفسية التي استهدفت بواسطتها “الحلقات الضعيفة” معنويات في جيش الإحتلال، على غرار الطابور المغربي، والطلائع السنغالية، ومرتزقة اللفيف الأجنبي.. فقد نجحت مصالح بوالصوف في هذا المضمار، إلى غاية منتصف 1960 في تهريب أكثر من 3000 مرتزقة، وتنظيم عودتهم إلى بلدانهم بطريقة أو بأخرى.. في “اللجنة الدائمة للثورة” عقد المجلس الوطني للثورة الجزائرية دورته الأولى بالقاهرة في أوت 1957، وقد سبقت الدورة نشاط كواليس مكثف، بهدف إعادة ترتيب قيادة الثورة، على ضوء التحاق لجنة التنسيق والتنفيذ المنبثقة عن مؤتمر الصومام قبل سنة بالخارج والنتائج المرتبة عليه. من نتائج هذه الدورة ظهور ميزان قوة جديد، تعبر عنه الحقائق التالية: إعادة النظر في المبدأين الشهريين الصادرين عن مؤتمر الصومام “أولوية العمل السياسي على العسكري” و“أولوية الداخل على الخارج”. توسيع لجنة التنسيق والتنفيذ إلى 14 عضوا (بدل 5): 9 أعضاء عاملين، و5 شرفيين هم القادة السجناء “بلاصنتي” آنذاك. ظهور قيادة عليا فعلية للثورة إلى جانب لجنة التنسيق ومجلس الثورة مشكلة من 5 عسكريين” و“سياسي” وحيد هو رمضان عبان. وجد عبد الحفيظ بوالصوف نفسه عضوا في هذه القيادة العليا الفعلية، إلى جانب بلقاسم كريم وسليمان بن طبال وعمار أوعمران ومحمود الشريف.. بل أكثر من ذلك كان عضوا نافذا بفضل مؤهلاته الشخصية، وحصيلة جهوده في التأسيس للثورة على الجهة الغربية، وإشرافه عمليا على الولاية الخامسة بمناطقها الثماني أو التسع(1) وعلى اتحادية جبهة التحرير بالمغرب كذلك. للتذكير أن بوالصوف بادر بهذا العمل التأسيسي الحيوي في نطاق صلاحياته، قبل أكثر من سنة من تقاسم المهام بين أعضاء لجنة التسنيق والتنفيذ الثانية في أبريل 1958، فهو لم يكتف بالتدريب العسكري في عدد من المراكز على امتداد الحدود الجزائرية المغربية، بل أنشأ إلى جانب ذلك مدارس للإطارات، وللأسلاك المتخصصة في جيش التحرير الوطني، كالإستعلام جوسسة ووقاية والإشارة والهندسة العسكرية. .إلخ. فقد أقام مثلا مركزا هاما بوجدة للتنصت على اتصالات قوات العدو لاسيما وحدات الدرك بلغ عدد العاملين به نحو 80 نفرا. واستعمله لاحقا بمركز ثان في مدينة الكاف لتغطية الجبهة الشرقية. وبفضل الدفعات المتتالية من سلاح الإشارة، استطاع أن يجهر مجالس الولاية، بل مجالس عدد من المناطق بفرق عاملة على أحداث أجهزة الميدان اللاسلكية، كتلك التي يستعملها الجيش الفرنسي وقوات الحلف الأطلسي.. لذا كان دائب البحث عن الكفاءات، لبناء هذه الأسلاك المتخصص على أساس سليمة.. ويخبرنا زميله آنذاك عبد الحميد مهري أنه كان يتحلى بخصال الرواد المؤسسين: كان يفضل العمل مع الذين يشعر بأنه يستطيع الإستفادة منهم، لعلمهم أو لخبرتهم الميدانية.. وكان يستكمل ذلك بفعالية التنظيم، إذ كان شعاره الدائم “ينجح التنظيم حيث يفشل الإنسان”.. فلا غرابة أن يوفق في استقطاب كفاءات صنعت أمجاد جيش التحرير على الجبهة الغربية أمثال هواري بومدين، مسعود زڤار، عمر الثليجي، منصور بوداود، عبد القادر شنڤرتي، معبد شارف الملقب بالشيطان! والحرص على النظام في الحرب الثورية خاصة يعني الحرص على الإنضباط والسرية وكان بوالصوف يتحول إلى أسطورة في هذا المجال وكان محقا في ذلك لأن السرية والإنضباط سلاح الثائر بامتياز، لأنه يواجه عدوا أقوى منه بكثير عدة وعتادا.. ومن “ضحايا” صرامة بوالصوف على هذا الصعيد: فريق صحيفة “المقاومة” بتيطوان سنة 1957.. فقد بلغه أن أحد عناصر الفريق لا يأخذ كثيرا مأخذ الجد ضرورات الإنضباط والسرية.. ففرض على الجميع بعد التحقيق في الأمر نوعا من الإقامة الجبرية! مجموعة الإستعلام بوجدة التي أصيب بعض عناصرها بنوع من السوداوية جراء السرية المفرطة، استوجبت الإستعانة بالدكتور فرانز فانون لعلاجهم! الدكتور الأمين خان كاتب دولة في الحكومة المؤقتة الأولى الذي تأخر خلال جولة عبر الحدود المغربية عن موعد السادسة صباحا، فلم يتردد لإخراجه بلباس النوم! ويلخص تلامذة بوالصوف أسطورة السرية لديهم بقولهم “أن يده اليمنى لا تدري ما تفعل يده اليسرى”! موقف واقعي من مؤتمر الصومام كان عبد الحفيظ بوالصوف موهبة في الحرب النفسية أيضا وقد عبر عنذ لك في محاولة ترجمة التفوق المعنوي للثائر صاحب القضية العادلة إلى قوة فعلية، تقف ندا لند أمام جيش الإحتلال المتفوق أضعافا مضاعفة. حدث في غضون الأشهر الأولى من عام 1956، أن اعتقال الجيش الفرنسي في حاز داخل التراب المغربي بضواحي بركان الرائد محمد فرطاس (سي مصطفى)، عضو مجلس المنطقة الخامسة التي يتولى بوالصوف قيادتها بالنيابة.. وكان الأسير مكلفا بالشؤون الإدارية، أي على علم بكثير من خبايا المنطقة على الصعيدين السياسي والعسكري.. ضاق باالصوف بهذا الحادث المزعج وخشى عاقبته على جهوده التنظيمية وما يتبعها في حالة استنطاقه بالتعذيب وانتزاع أسراب المنطقة بوسائل العدو الجهنمية، من كهرباء وكلابات ونوافث لهب.. وما إلى ذلك.. ففكرو فورا في رد فعل منسب: اختطاف ضابط فرنسي بوجدة ومقايضته بالرائد فرطاس! وبسرعة البرق تم تديبير العملية وتنفيذها.. كانت الطريدة ضابطا ساميا هو العقيد “مزوريي”.. ويبدو أن العقيد كان على قدر من الأهمية في الجيش الفرنسي بالمغرب الشرقي، فتقبل المقايضة دون كبير عناء.. وهكذا عاد فرطاس إلى قواعده سالما! وعلى صعيد الحرب النفسية دائما ركزت مصالح بوالصوف في دعايتها على الحلقات الضعيفة في جيش الإحتلال القوي: المجندين والمتعاقدين الجزائريين الذين من المفروض أن يكونوا إلى جانب شعبهم، وقضيته العادلة التي ريفع رايتها جيش التحرير الوطني المتعاقدين المغاربة، والأفارقة الذين من المفروض أن يوجهوا بنادقهم لتحرير شعوبهم من نفس العدو. المجندين الفرنسيين في إطار الخدمة الإجبارية الذين جيء بهم إلى الجزائر لحماية مصالح المستوطنين، ومصالح العائلات الثرية منهم بالدرجة الأولى.. وحدات اللفيف الأجنبي المشكلة في معظمها من مرتزقة أجانب، التحقوا بهذا السلك من جنود التنخبة لأسباب شخصية في الغالب.. حققت مصالح بوالصوف نجاحات مختلفة مع الأسلاك المذكورة.. ونكتفي هنا بذكر الحصيلة الجزئية في صفوف اللفيف الأجنبية خاصة. كان جيش الإحتللا كثيرا ما يدفع بو حدات اللفيف إلى الواجهة، لمطاردة الثوار في معاقلهم الحصينة عامة، فكانت نسبة الخسائر لذلك عالية بينهم.. وما لبث بوالصوف ورفاقه أن أنشأوا جهازا خاصا لمخاطبة عناصر هذا السلك، نصبوا على رأسه ثائرا نمساويا هو المجاهد مصطفى مولر. كان هذا الجهاز يركز على العناصر الألمانية خاصة في هذا السلك، لخطورتها وكثرتها في نفس الوقت، وكان يحد في تحريضاته المتكررة لهؤلاء سندا محليا، من شبكات جبهة التحرير في مواقع تمركز وحدات اللفيف مثل: سيدي بلعباس، معسكر، الأغواط، عين الصفراء.. هذه الجهود المتظافرة كانت تحقق بعض النتائج من حين إلى آخر.. مثلا كانت الحصيلة في 5 يوليو 1958 تهريب 50 عنصرا في عملية وحدات، وهي بدون شك ضربة نفسية مؤلمة لقيادة جيش الإحتلال عامة.. وتقدر مصالح بوالصوف حصيلة جهودها على هذا الصعيد إلى غاية 23 / 07 / 1960، بتهريب نحو 3300 جندي من اللفيف الأجنبي.. ومن الطرائف في هذا الصدد أن جنرالات ألمانيا بالحلف الأطلسي، طلب من هذه المصالح تهريب إبنه المرتزق بالجزائر، وقد لبت طلبه، وتمكن فعلا من إستعادة إبنه. فتحي الديب :”جهاز بوالصوف تجرأ على مراقبة مكتبي”! فتحي الديب ضابط سام في المخابرات المصرية، مكلف بالتنسيق مع ممثلي الثورة الجزائريةبالقاهرة، بدءا بأعضاء الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني: محمد خيضر، حسين آيت أحمد، أحمد بن بلة. ترك لنا الديب كتابا بعنوان عبد الناصر والثورة الجزائرية (2) تناول فيه بالتحلي لوالنقد عددا من قادة الثورة، من بينهم طبعا عبد الحفيظ بوالصوف، يخبرنا الديب بأن هذا الأخير أقام بالقاهرة جهازا أمنيا من نحو 50 رجلا.. “ جهارا يتجسس على الجميع” حسب قوله، والأدهى أن الديب يعتقد أن جهاز بو الصوف بلغت به الجرأة إلى حد مراقبة مكتبه شخصيا! في 10 فبراير 1959 شهد مبنى الحكومة المؤقتة بالعاصمة المصرية حادثة مؤسف: سقوط إطار من وزارة الخارجية في مندوبية بيروت يد عى علاوة عميرة، جثة هامدة من الطابق الخامس للعمارة، حيث مصالح وزير الإ تصالات والعلاقات العامجة. وجهت أصابع الإتهام إلى مصالح بوالصوف كما هو معلوم.. ويفهم من كلام الديب”أن الحادثة مبيتة”، بدليل أن وزير الإتصال تعمد الغياب عن القاهرة بالمناسبة. بعد التحريات الأولى استغل الديب الفرصة، فأمر بتفكيك “ جهاز بالصوف” في القاهرة ليلة 22 من نفس الشهر.. ويقول عن ذلك : أن بوالصوف جاءه في 23 فبراير مستفسرا، فطرده بأدب! يعتبر الديب بوالصوف الأهم وزنا بين “ الباءات الثلاثة” .. مستندا إلى ما حدث في دورة ديسمبر 59 ويناير 60 لمجلس الثورة .. ففي إعتقاده أن كفة بوالصوف رجحت ، بعد تشكيل اللجنة الوزارية للحرب من الثلاثي الشهير، وتعيين العقيد هواري بومدين على رأس هيئة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني .. كان بلقاسم كريم قد عين وزيرا للخارجية يومئذ، وتأكيدا لما يذهب إليه، يفيدنا بأن بالصوف سعى لتوريط هذا الأخير في التخلص من أنصار سلفه الدكتور الأمين الدباغين بالقاهرة وبعض العواصم العربية. لكن كريم يبقى آهم الثلاثة من الناحية التاريخية، لذا يعتبر الديب في ختام حكمه بوالصوف الرجل الثاني بعده في قيادة الثورة. ومن أقواله عنه وآحكامه عليه: - أنه بعمل في هدوء وتكتم لكشف منافسيه، تمهيدا للإطاحة بهم والسيطرة على الثورة.. يتظاهر بتأييد بن بلة، الأمر الذي أكسبه حب أفراد جيش التحرير الذين يأخذون عليه مع ذلك ؟؟؟ موقفه في وجه تيار الإنحراف بالثورة. يرى في القاهرة السند القوي لتحقيق أهدافه، لذا يتعاونه معنا... يعترف بأن الثورة أكبر من أشخاصه ورفاقه، ويحاول تكتيل الشخصيات سليمة الإتجاه لمؤازرته، يسعى لتوسيع شعبيته، بإتخاذ موقف المدافع الأول عن ثورة أول نوفمبر 1954... (يتبع) (*) طالح الحلقتين 1 و 2 في الفجر، عددي 29 مايو و 5 يونيو 2013 (1) أسست منطقة تاسعة في يوليو 1957 بقيادة عمر ادريس، ألحقت في أبريل 1958 بالولاية السادسة. (2) صدر بالقاهرة سنة 1986.