تضمنت مذكرات محي الدين باشتارزي معلومات، أرتأينا الوقوف عند بعضها حسب التسلسل الزمني للأحداث المعبرة عنها: 1 - يذكرنا الفنان الشاهد في هذا الصدد، بأن الأعياد الدينية الإسلامية لم تصبح أعيادا رسمية (للمسلمين) إلا سنة 1948! ولعل ذلك يندرج ضمن “الإصلاحات” التي جاء بها القانون الخاص بالجزائر المصادق عليه في 1947/9/20. 2 - أن الإنارة العمومية في مدينة المسيلة تم تدشنيها في 23 أكتوبر 1949، وبهذه المناسبة عرضت فرقته مسرحية “الكشكول”. 3 - أن جثمان الكاتب المناضل علي الحمامي أعيد من باكستان عبر مطار عنابة في 1949/12/31، وكان في استقباله من قادة حزب البيان فرحات عباس وأحمد بومنجل... وكان الكاتب ضحية حادث طائرة رفقة قياديين آخرين من الحركة الاستقلالية المغاربية هما أحمد بن عبود (المغرب) والحبيب ثامر (تونس)، وكان وجود الوفد المغاربي في باكستان للمشاركة في مؤتمر عالمي حول الإقتصاد الإسلامي. 4 - أن المطرب العربي الكبير فريد الأطرش أقام حفلا بقاعة بورد (بن خلدون) في 1951/2/3، لم تتعد مداخيله 222 ألف فرنك (ق) ...وأنه استغرب هذا المبلغ، علما أن رجل أعماله اليهودي سعاده كان طلب أكثر من الضعف! وكان الأطرش قد اصطحب معه شقيقه فؤاد، والراقصة الشهيرة سامية جمال. 5 - إن الممثلة القديرة كلثوم عاشت “نوبة شك وغيرة” حادة، حاولت جراءها الإنتحار في 51/5/30، برمي نفسها من سطح دارها في بولوغين. وكان باشتارزي قد اكتشف هذه الموهبة الفنية بالبليدة سنة 1935...
غربة الجمهور الجزائري في الأوبرا! واصل المسرح العربي بالجزائر إنطلاقته غداة الحرب العالمية الثانية بجهود خاصة أكثره، وبمساعدة بعض البلديات التي استطاعت الحركة الوطنية أن ترسل إليها بعض المنتخبين في محليات أكتوبر 1947.. وهذه حال بلديتي العاصمة ووهران تحديدا، فيما يتعلق بنشاط محي الدين باشتارزي الذي استطاع أن يتعاقد مع اللجان الثقافية لكلتهيما مواسم متتالية. خلال الموسم 1948/47، تأسست على مستوى بلدية العاصمة لجنة قراءة للمسرح “العربي” برئاسة الشيخ أحمد توفيق المدين.. وانتظمت العروض المسرحية في أوبرا العاصمة على أساس عرضين كل جمعة؛ للنساء صباحا وللعامة مساء. وبما أن دار الأوبرا وميحطها يغلب عليهما الطابع الأوروبي، فقد كان المسرح العربي يبدو كضيف ثقيل، ولا يتحرج العمال الفرنسيون بسلوكاتهم المعادية - من إشعار منشطيه بذلك بين الفينة والأخرى... وكان هذا المحيط بصفة عامة في البداية، يستغرب وجود جمهور عربي في دار الأوبرا ... بعد أن ظلت لفترة طويلة حكرا على الجمهور الأوربي وحده! ومن حيث النمط الإبداعي، واصل المسرح العربي مشوارع بالجمع بين التمثيل والطرب، مع تغليب الطابع الفكاهي بهدف استقطاب أكبر عدد ممكن من الجمهور؛ وتغليب اللغة الدارجة كذلك لنفس الغرض. طبعا لم تكن الفرقة العربية لأوبرا العاصمة هي الوحيدة في الساحة، بل كانت تنشط إلى جانبها في قاعات أخرى العديد من الفرق الهاوية بمدينة الجزائر وخارجها، من هذه الفرق على سبيل المثال: - فرقة المسرح الجزائري بقيادة مصطفى كاتب. - مسرح الغد، بقيادة رضا الفلكي. - الفن التمثيلي بقيادة مصطفى غريبي، وكانت تابعة للمركز الجهوي للفن الدرامي.. - المزهر القسنطيني بقيادة الثنائي الدكتور بن دالي والكاتب رضا حوحو ... ولم تكن هذه الفرق - وغيرها - تكتفي بالعروض الفنية التجارية، بل كانت كل منها عبارة عن مدرسة لاكتشاف المواهب الشابة وصقلها .. من هذه المواهب التي بدأت تبرز أواخر الأربعينات ومطلع الخمسينات من القرن الماضي: - رزقي أبرقوق الذي أصبح الممثل المخرج مصطفى بديع، ويخبرنا باشتارزي بالمناسبة، أن هذا الإسم الفني المستعار كان من اقتراح الشاعرمفدي زكريا. - محمد إبراهيمي الذي اشتهر في العروض الفكاهية باسم محمد حلمي - محمد بودية الذي تألق لاحقا ممثلا وفدائيا أيضا - فريدة صابونجي التي تطوعت لأداء أدوار نسوية في فرقة المزهر القسنطيني وكانت كلثوم ممثلة ومطربة ومتعهدة حفلات أيضا، وكانت تقيم فعالياتها عادة بقاعة “بادوفاني” في باب الوادي... ونكتشف مع الشاهد أن المسرح العربي الجزائري لم يكن معزولا عن عمقه المغاربي والمشرقي... - مغاربيا كان على صلة وثيقة بفناني الشقيقة تونس، من خلال حضور شبه منتظم لعدد من الفنانين والموسيقيين أمثال محمد الجموسي وعلي الرياحي ومحمد التريكي.. ومن الفنانات نذكر : شافية رشدي، فتيحة خيري، فضيلة خاتمي، وكان هذا الحضور التونسي يشمل المسرح كذلك من خلال “سلاك الواحلين” لنور الدين بن محمود، و”عائشة القادرة” لشافية رشدي. - مشرقيا عبر النافذة المصرية السورية أساسا .. ففي مطلع العشرينات دشن هذه العلاقة الفنية جورج أبيض، وواصلها بعد 30 سنة يوسف وهب الذي قام بجولة مغاربية على رأس الفرقة الوطنية المصرية. غطت الفرقة أهم المدن الجزائرية، من قسنطينة إلى تلمسان مرورا بالعاصمة ووهران، وأقامت بمدينة الجزائر أسبوعا ابتداء من 12 فبراير 1950، وأدت عدة عرو ض منها “راسبوتين” بيوم أفندي، الرقعة الخضراء (المقارجي) .. ومن نجوم الفرقة نذكر: أمينة رزق، نجوى ابراهيم، زكي طليمات، حسن بارودي... وقد حظيت الفرقة باستقبال حار رسيما ومدنيا، فانتظم مثلا على شرفها ينادي الترقي حفل تناول فيه الكلمة يوسف وهبي، بعد الشيخين العقبي وتوفيق المدني...
أنفاس المسرح .. تحت مجهر العقيد “شون” نكتشف عبر مذكرات محي الدين باشتارزي، أن نظام الإحتلال بالجزائر أقام شبكة أمنية ردارية، لمراقبة حركة ومضمون المسرح العربي عن كثب، تحت غطاء مبدأ “الفن للفن” وإبعاده لذلك عن “عدوى الوطنية” ما أمكن! على الصعيد الأمني مثلا كان العقيد “شون” - مسؤول “مصالح الإتصالات بشمال إفريقيا (SLNA)” يتابع كل صغيرة وكبيرة، بواسطة مصالحه وعيونه في العمالات الثلاثة (الجزائر، وهر ان، قسنطينة)، ولم يكن يتردد في استدعاء باشتارزي شخصيا لاستفساره وتنبيهه... ومن أمارات “يقظته الأمنية”، أنه تدخل لمنع الفرقة المصرية من عرض مسرحية “مسمار جحا”، أثناء جولتها المغاربية مطلع 1950! ولم يكن المحامي أندري - نائب رئيس بلدية العاصمة للفنون الجميلة ورئيس لجنة المسرح - بأقل حرصا ويقظة من العقيد “شون”! ونسوق مثالين عن هذه “اليقظة الأمنية الإدارية” فيما يلي: - كان باشتارزي ألف سنة 1937 مسرحية بعنوان “الواجب”، استلهمها من مقال لشكيب أرسلان، اطلع عليه بأحدى الصحف السويسرية.. لكن المسرحية منعت حينئذ ..وبعد نحو 15 سنة بدا له أن يعرضها في حفل لفائدة جمعية الطلبة المسلمين لافريقيا الشمالية... كان ذلك في 9 مارس 1952، عندما كان على رأس الجمعية طالب في كلية الطب، هو رابح كربوش من شباب حزب البيان(1) أغاضت المسرحية بمضمونها المحامي أندري، وزاد من غيضه الطرب المرافق لها: فقد غنت كلثوم “يا شباب” وهي ترتدي فستانا مزركشا بأعلام الأقطار العربية، بينما غنى علي الرياحي “يا عرب” تحية لهذا الفستان! اعتبر أندري ما حدث عدوانا على فرنسا، وخطر على النظام العام.. فسارع بتسليط غرامة معلومة على باشتارزي، ووقف كثلوم مدة شهر، فضلا عن منع الرياحي من الغناء بالأوبرا! - أدى ميسوم خلوي في حفل خاص أغنية عبد الوهاب الشهيرة “أحب عيشة الحرية” فكان جزاؤه الحبس في سركاجي، رفقة أربعة من عناصر الفرقة الموسيقية! واختتمت سنة 1952 بغرامة ثانية لباشتارزي؛ فقد كانت فرقته تعرض بالأوبرا يوم 5 ديسمبر مسرحية ؛ “بالسيف عليك”، فبلغهما نبأ اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد، وكان الحفل بمشاركة اثنين من تونس هما التميمي وروحية، فلم ير بدا من طلب الوقوف دقيقة صمت، ترحما على روح النقابي الشهيد.. هذه العقوبة أحدثت ضجة في الوسط الفني، فكتبت صحيفة فرنسية ما معناه: “أن الصمت بالجزائر يحدث دويا”! ومن جهة أخرى نكتشف مع الشاهد، أن مسرح مطلع الخمسينات كان وثيق الصلة بالمجتمع المدني؛ فلم تكن هذه الصلة تقتصر على جمعية الطلبة، بل كانت تمتد إلى جمعيات أخرى مثل جمعية العلماء وجمعية النساء المسلمات الجزائريات... الخ وكان هذا المسرح أيضا يجوب الجزائر العميقة، فيقدم عروضا في المدن الثانوية، مثل سيدي عيسى وقصر البخاري وعين تموشنت وعزابة.. وكان منتخبو الحركة الوطنية في البلديات لا يبخلون بدعم الحركة المسرحية.. ففي العاصمة مثلا تدخلوا ابتداء من موسم 1952/ 53، لرفع الإعتماد المخصص للفرقة العربية إلى 7.5 ملايين فرنك (ق). بدل 5 ملايين.. وأكثر من ذلك كانوا يطالبون باستقلالية الفرقة العربية وتمويلها من البلدية مباشرة... وكان منتخبو الحركة بوهران، وعلى رأسهم الهواري سويح على نفس الخط. لماذا لم يلتحق باشتارزي بتونس؟ دافع محيي الدين باشتارزي في مذكراته عن المسرح العربي بالجزائر أسلوبا ولغة... فهو يرى أن المزج بين التمثيل والطرب كان أجدى في الترويج لهذا الفن، وكسب جمهور واسع له ..وأن القطيعة التي حدثت مع هذا الأسلوب غداة الإستقلال كانت حادة، ويعزي إليها - نسبيا- قلة إقبال الجمهور على المسارح.. وكان يوسف وهب خلال زيارته الأولى للجزائر مطلع 1950، قد أبدى رأيه في هذا الموضوع، ضمن حديث سريع مع صحيفة مسائية بوهران.. وخلاصة رأيه: “أننا في مصر تجاوزنا مرحلة التحايل بالرقص والموسيقى لجلب الجمهور”. أي أن جمهور المسرح هناك بات يقصده لذاته لا لمنمقاته وبهارجه الموسيقية الغنائية. ومن المفيد أن نكمل رأي وهبي، برأي محمد ديب الناقد المسرحي آنذاك في صحيفة “الجز ائر الجمهورية” ..يقول ديب في عدد 13 يناير 1951: “أن الأعمال التي تركز عليها فرقة الأوبرا حاليا تبدو بدون كبير مغزى، وإن كانت ترفه عنا”... داهمت ثورة فاتح نوفمبر 1954 باشتارزي ورفاقه وهم منغمسون في تحضير موسم 55/54. وفي الفعاليات الخيرية لفائدة منكوبي زلزال الأصنام الذي ضرب المنطقة ليلة 9 سبتمبر الماضي.. ففي 2 ديسمبر الموالي أقيم حفل بباريس لفائدة المنكوبين، رأت السلطات الفرنسية أن تشرك فيه الفرقة العربية لأوبرا الجزائر، وتم نقلها لهذا الغرض على متن 3 طائرات عسكرية .. واقتصر دورها في نهاية الأمر على افتتاح الحفل بالظهور 20 دقيقة، حتى تترك الحلية لموريس شوفاليي وبالي أوبرا باريس. كان باشتارزي يحاول مواصلة نشاطه الفني بصورة عادية، رغم الأحداث الدامية التي ما انفكت تهز الجزائر بعنف و”ظهور جدار الحذر المتبادل” بين الجزائريين والأوروبيين حسب قوله. وفي هذا الإطار سافر إلى القاهرة في فبراير 1955، بنية التعاقد مع عدد من الفنانين المصريين لإثراء نشاط فرقته.. مكث هناك لهذا الغرض قرابة شهرين .. وبعد ساعات قليلة من عودته في 5 أبريل الموالي، تلقى هاتفا من العقيد “شون” يدعوه لإستقباله صباح غد بمكتبه في قصر الولاية العامة (الحكومة حاليا)،... فلما أتاه، طلب منه نصوص المسرحيات التي تنوي الفرق العربية عرضها بالجزائر... غير أن الحرب الدائرة منذ فاتح نوفمبر من العام المنصرم مالبثت أن فرضت منطقها، فرفضت المصالح القنصلية الفرنسية بالقاهرة منح التأشيرة لفرقة يوسف وهبي، وطفق الجمهور نفسه يعزف عن التردد على العروض المسرحية، حتى خلال السهرات الرمضانية المختلطة... هذه الظاهرة إزدادت حدة خلال موسم 55/56 الذي بدأ بأوبرات “دولة النساء” التي رأت إذاعة الجزائر عدم بثها، بدعوى “الطابع التحريضي لحوارها” ! واختتم هذا الموسم في 11 مايو 1956 بمسرحية “بوقرنونة” الهزلية، أمام 22 مشاهدا من بينهم 18 مدعوا! وفي 16 من نفس الشهر سافر باشتارزي إلى باريس التي سبقه إليها عدد من الفنانين، من بينهم مصطفى كاتب. وغداة حصار العاصمة مطلع 1957 التحق نهائيا بالعاصمة الفرنسية، وشرع في التعاون مع الإذاعة والتلفزة الفرنسية.. كان في تلك الأثناء على صلة بمصطفى كاتب، الذي التحق في ربيع السنة الموالية بتونس، رفقة عدد من رجال المسرح والفن، لتأسيس فرقة جبهة التحرير الشهيرة.. لم ير كاتب من ضرورة لمكاشفة باشتارزي سر هذا المشروع... الأمر الذي أثار استغرابه إلى حد ما .. ولعل مرد ذلك تقدمه في السن (61 سنة)، وربما ما عرف عنه من “اعتدال” كذلك، اعتدال يصنفه في خانة “يمين الحركة الإصلاحية” .... (إنتهى)