كتاب ل”جون بيركنز” العميل السابق لوكالة الامن القومي الاميركية ، يقدّم فيه شهادة من الداخل عن الدور الذي تلعبه البنوك والشركات العالمية لسرقة دول العالم الثالث وإغراقها بالديون ومن ثم وضعها تحت إشراف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بينما تسرق الشركات المتعددة الجنسيات، مثل هاليبرتون و بيكتل مواردها بحجة التنمية. يقول بيركنز ان القتلة الاقتصاديين هم قتلة محترفون، يقبضون أعلى الأجور، ليبتزوا رؤساء الدول في شتَّى أنحاء العالم، ويسرقوا مليارات الدولارات منها. وكان بيركنز نفسه أحد هؤلاء القتلة،جنّدته (سي آي إيه) سرّاً، وعمل معها تحت غطاء عمله في شركة استشارية دولية، فزار أندونيسيا وكولومبيا وبنما والإكوادور والمملكة العربية السعودية وإيران وسواها من الدول التي تمتلك أهمية في الاستراتيجية الأميركية. وكانت مهمّته تتركّز على تطبيق السياسات التي تخدم مصالح تحالف أميركي، يضمّ الحكومات،والشركات في الوقت نفسه العمل على تسكين أعراض وآثار الفقر إجراءات ظاهرية خادعة. وترك الكاتب وظيفته بعد تفجيرات11 أيلول 2001، ونذر نفسه لفضح هؤلاء القتلة- الذي كان هو نفسه يوما واحد منهم – من خلال كتابه اعترافات قاتل اقتصادي، وأهداه إلى روحَي رئيسين سابقين، لدولتين من دول امريكا اللاتينيَّة، هما الرئيس الأسبق للإكوادور خايمي رولدوس، والرئيس الأسبق لبنما عمر تورِّيخوس، وكلاهما قُتلا في حادث طائرة مُفتعل على حدِّ وصف الكاتب، ذلك “لأنَّهما وقفا في وجه الشركات والمصارف والحكومات التي تهدف إلى إقامة إمبراطوريَّة عالميَّة عن طريق نهب ثروات بلدانهم الطبيعية . والذي ذهب هو بنفسه اليهما وحاول ابتزازهما ولكنهما رفضا ، فتعرضا للاغتيال بأسقاط طائراتيهما الرئاسيتان.الكتاب ترجمه الكاتب الاردني بسام ابو غزالة تذكّرتُ بعضَ أشياءَ كنتُ أتجاهلُها استسهالاً عبر السنين. كان إيثَن ألن قد أمضى عدة أشهر في سفنِ سجنٍ بريطانيةٍ منتنةٍ ضيقةٍ، وفي معظم الوقت كان مقيدا بأغلال حديديةٍ تزنُ أكثرَ من ثلاثين رطلا، ثم قضى وقتاً أطول في زنزانةٍ في إنكلترا. كان أسير حربٍ أٌُسر في معركة مُنتريال عام 1775 حين كان يُقاتلُ لأجل الحرية ذاتها التي يطالبُ بها الآن جيم رُلْدُس وعمر توريجُس لشعبيهما. كذلك خاطر طومس جفرسن وجورج واشنطن، وجميعُ الآباء المؤسسين بحياتهم في سبيل مُثُل شبيهة. لم يكن الانتصارُ في الثورة تحصيلَ حاصل؛ فقد كانوا يُدركون أنهم إنْ هُزموا فسوف يُشنقون باعتبارهم خونة. أما دانيال بون، وديفي كْرُكِت، ولويس وكلارك، فقد تحمَّلوا صعوباتٍ جمّةً وقدموا تضحياتٍ كبيرة. فماذا من أمر دْريك ومورغَن؟ كنتُ غير متأكّدٍ من هذه الفترة من التاريخ، لكني تذكّرتُ أنّ إنكلترا البروتستَنتية اعتبرت نفسها مهددة من قبل إسبانيا الكَثوليكية. وكان عليّ أن أقبل باحتمال تحوُّلِ دْريك ومورغَن إلى القرصنة لكي يضربا في قلب الإمبراطورية الإسبانية، ممثلا بسفن الذهب تلك، دفاعاً عن حرمة إنكلترا، لا رغبةً في تعظيم النفس. وإذ كنا نُبحرُ عبر تلك القناة، ونغيِّرُ اتجاهنا إلى الأمام وإلى الخلف حسب مهبِّ الريح، مقتربَيْن من الجبال الصاعدة من البحر – جزيرة غريت ثاتش إلى الشمال والقديس حنا إلى الشمال – لم يكن بمقدوري أنْ أمحوَ هذه الأفكار من رأسي. أعطتني ماري زجاجةَ جعة، وأعلتْ صوتَ المُسجل على أغنيةٍ لجِمي بَفِت. مع ذلك، وبالرغم مما يُحيطُ بي من جمال ومن الشعور بالحرية التي تتأتى عن الإبحار الشراعي، كنتُ أشعرُ بالغضب. وإذ حاولتُ الخلاص منه، تجرّعتُ الجعة دفعةً واحدة. لكنّ انفعالي لم يُغادرني. كنتُ مُغضباً من تلك الأصوات الآتية من التاريخ ومن طريقةِ استخدامي لها لكي أٌُبرِّرَ جشعي. كنتُ غاضبا من والديَّ، ومن تِلتُن – تلك المدرسة الإعدادية الأخلاقية القابعةِ فوق التل – بسبب فرض كلِّ ذلك التاريخ عليّ. فتحتُ زجاجةَ جعةٍ أخرى. كنتُ جاهزاً لقتلِ مَك هول لما فعل ببرونو. مرّ بنا قاربٌ عليه علمٌ بألوان قوس قُزح، تتطاير أشرعتُه على جانبيه، ماضياً مع الريح عبر القناة. كان عليه نصفُ دزينة من رجال ونساء يتصايحون ويُلوِّحون لنا. كانوا صعاليكَ هِبِّيين يرتدون السارُنغ الخفيف بألوان ساطعة، وكان زوجٌ منهم يجلسان عاريين في المقدمة. كان واضحاً من القارب نفسه ومن منظرهم أنهم يعيشون على القارب حياة مشاعٍ، قرصانا مُحدثين، أحراراً بلا مُحرَّمات. حاولتُ أنْ أردّ لهم التلويح، لكنّ يدي لم تُطعني. شعرتُ بالحسد يستولي عليّ. كانت ماري تقفُ على ظهر القارب تُراقبُهم وهم يبتعدون عن مؤخرة قاربنا. سألتْ، “كيف تروقُ لك مثلُ هذه الحياة؟” بعد ذلك أدركتُ أنّ غضبي لم يكن على والديَّ أو على تِلتُن أو على مَك هول. كانت حياتي هي التي أكرهُها، حياتي أنا. الشخص المسؤول، الشخص الذي أشمئزُّ منه، هو أنا. صاحتْ ماري بشيء. كانتْ تُشيرُ إلى الميمنة. اقتربتْ مني وقالت، “خليج لاينْسْتَر، حيث نرسو هذه الليلة.” هاهو ذا يُعشِّشُ في جزيرة القديس حنا. إنه الكهفُ الذي كانت تكمنُ فيه سفنُ القراصنة تنتظرُ أسطولَ الذهب حين كان يمرُّ من هذه المياه نفسها. أبحرتُ مُقترباً أكثر، ثم سلّمتُ ذراع السكان لماري وذهبتُ إلى المقدمة. وإذ أبحرتْ ماري بالقارب حول ووترْمِلُن كاي ثمّ إلى الخليج الجميل، خفضتُ ذراعَ السارية وسحبتُ المرساة من مخبأها، فألقت ماري الشراع الرئيسيّ برشاقةٍ. وكزتُ المرساة إلى الجانب، فغاصت السلسلة مُقعقعةً في الماء الصافي كالبلور، وتوقف القارب. بعد أن استقررنا، سبحتْ ماري قليلا ثم نامت. تركتُ لها ملاحظة، وذهبتُ أجدِّفُ بالحَسَكة على طول الشاطئ، ثمّ توقّفتُ تحت آثار مزرعة سكر قديمة. جلستُ هناك عند الماء طويلا، محاولا التفكير، مُركِّزا على إفراغ نفسي من كلِّ عاطفة. لكنني لم أُفلح. في وقتٍ متأخرٍ من العصر، جاهدتُ صاعداً التلَّ المنحدرَ بشدة، فوجدتُني أقفُ على الجدران المتداعية لهذه المزرعة القديمة، ناظراً إلى قاربنا الشراعي حيث كان يرسو. راقبتُ الشمس تغوصُ صوب الكاريبي، فبدا لي كلُّ شيءٍ شاعريا. بيد أني كنتُ أعلمُ أنّ تلك المزرعة التي تٌُحيط بي كانت مسرحاً لبؤس مسكوتٍ عنه؛ فقد مات هنا مئاتُ العبيد الأفارقة، مُجبَرين بقوة السلاح على أن يبنوا ذلك القصر الفخم، وأنْ يزرعوا قصب السكر ويحصدوه، وأنْ يُشغِّلوا المعدات التي تُحوِّلُ السكَّر الخام إلى المكوّن الأساسي لمشروب الرَّم. لقد وضعتْ سَكينةُ المكان قناعاً على تاريخه الوحشي، بل وضعتْ أيضاً قناعاً على الغضب الذي كان يعتمل في داخلي. اختفت الشمسُ خلف جزيرة يحفُّها الجبل، فامتدّ في السماء قوسٌ أحمرُ أرجوانيٌّ. أخذ البحر يُعتمُ، وبتُّ وجهاً لوجهٍ أمامَ الحقيقة القاسية: أنني أنا أيضاً كنت مستعبِداً للناس، وأنّ وظيفتي في مين لم تكن محضَ استخدام للدَّيْن لجرِّ الدول الفقيرة إلى حظيرةِ الإمبراطورية العالمية. لم تكن تنبؤاتي المبالغُ بها مجرّدَ وسيلةٍ لضمان أنّ بلدنا يستطيعُ حين يحتاجُ إلى النفط أن يطلب حصته من اللحم، وأنّ وضعي كشريكٍ لم يكن ببساطة لتعظيم ربحية الشركة. كانت وظيفتي أيضاً حول الناس وعوائلهم، حول أناسٍ ينتسبون إلى هؤلاء الذين ماتوا وهم يبنون الجدار الذي كنتُ أجلسُ عليه، أناسٍ كنتُ أنا استغلُُّهم. لعشر سنواتٍ كنتُ وريثاً لهؤلاء المستعبِدين الذين كانوا يذهبون إلى أدغال أفريقيا ويجرّون الرجال والنساء إلى السفن التي كانت تنتظر. لكنّ طريقتي كانتْ أكثرَ حداثةً وبراعةً – لم يكن عليّ أنْ أرى الجثث الميتة، ولا أنْ أشمَّ اللحم المتعفن، ولا أنْ أسمع صرخات الألم. لكنّ ما فعلتُ لا يقلُّ شرّاً؛ فلأنني كنتُ أستطيعُ أن أبتعد بنفسي عنه، لأنني كنتُ قادراً على سلخ نفسي عن الجوانب الشخصية، من جثثٍ ولحمٍ وصرخاتٍ، فلعلي في التحليل الأخير كنتُ الأعظمَ شرا. نظرتُ ثانية إلى القارب الشراعي حيث كان يرسو ويصارعُ تيار الماء. كانت ماري مسترخية على ظهر القارب، لعلها كانت تحتسي المارغَرِتّا وتنتظرني لتُعطيني كأسا. في تلك اللحظة، إذ كنتُ أنظرُ إليها في آخر ضوءٍ للنهار، مسترخيةً هكذا، واثقةً هكذا، استثارني ما كنتُ أفعلُ لها وللآخرين الذين كانوا يعملون تحت إدارتي، إذ كنتُ أُحوِّلُهم إلى قتلةٍ اقتصاديين. كنتُ أفعلُ لهم ما فعلتْ كلودين لي، ولكنْ من غير صدق كلودين. كنتُ أغريهم بالعلاوات والترقيات لكي يُصبحوا مستعبِدين، ومع ذلك، كانوا مثلي أيضاً مغلولين إلى النظام. كانوا هم أيضاً مستعبَدين. حوّلتُ نظري عن البحر وعن الخليج وعن السماء الأرجوانية. أغمضتُ عينيّ عن الجدران التي بناها العبيدُ الذين سُلخوا من أوطانهم الأفريقية. حاولتُ أن أتخلص من كلِّ ذلك. وحين فتحتُ عينيّ، كنتُ أحدّقُ إلى عصا كبيرةٍ كثيرةِ العقد، في سُمك مضرب البيسبول وضعفيه طولا. وثبتُ وأمسكتُ بالعصا، وأخذتُ أصفع بها الجدران الحجرية. ضربتُ تلك الجدرانَ حتى سقطتُ من الإجهاد. بعد ذلك استلقيتُ على العشب أراقبُ الغيم ينسابُ من فوقي. أخيراً أخذتُ طريقي إلى الحَسَكة. وقفتُ هناك على الشاطئ أنظرُ إلى قاربنا الشراعيّ راسيا في الماء اللازوردي، وكنتُ أعرف ما عليّ فعلُه. كنتُ أعلمُ أنني إنْ عدتُ إلى حياتي السابقة، إلى شركة مين وما تمثّلُه، فسوف أضيع إلى الأبد. العلاوات، التقاعد، التأمين والمنافع الأخرى، قيمة الأسهم ... كلما أطلتُ المكوث، كلما ازداد خلاصي صعوبةً وأصبحتُ عبدا. باستطاعتي أنْ أضرب نفسي كما ضربتُ تلك الجدران الحجرية، أو باستطاعتي النجاة. بعد يومين عدتُ إلى بوسطن. وفي الأول من نيسان 1980، ذهبتُ إلى مكتب بول بْرِدي وقدمتُ استقالتي.
.. يتبع
كنتُ غير متأكّدٍ من هذه الفترة من التاريخ، لكني تذكّرتُ أنّ إنكلترا البروتستَنتية اعتبرت نفسها مهددة من قبل إسبانيا الكَثوليكية. وكان عليّ أن أقبل باحتمال تحوُّلِ دْريك ومورغَن إلى القرصنة لكي يضربا في قلب الإمبراطورية الإسبانية، ممثلا بسفن الذهب تلك، دفاعاً عن حرمة إنكلترا، لا رغبةً في تعظيم النفس.
راقبتُ الشمس تغوصُ صوب الكاريبي، فبدا لي كلُّ شيءٍ شاعريا. بيد أني كنتُ أعلمُ أنّ تلك المزرعة التي تٌُحيط بي كانت مسرحاً لبؤس مسكوتٍ عنه؛ فقد مات هنا مئاتُ العبيد الأفارقة، مُجبَرين بقوة السلاح على أن يبنوا ذلك القصر الفخم، وأنْ يزرعوا قصب السكر ويحصدوه، وأنْ يُشغِّلوا المعدات التي تُحوِّلُ السكَّر الخام إلى المكوّن الأساسي لمشروب الرَّم. لقد وضعتْ سَكينةُ المكان قناعاً على تاريخه الوحشي، بل وضعتْ أيضاً قناعاً على الغضب الذي كان يعتمل في داخلي.