أثبت ”الإخوان” في مصر وتنظيمهم الخارجي ومساندوهم، افتقارهم للحسابات الاستراتيجية، عندما ظنوا أن وصولهم إلى حكم مصر سيغير المعادلات في الشرق الأوسط والعالم، وربما وقعت أطراف أخرى أيضا في فخ التقديرات الخاطئة، وبعد وصولهم إلى الحكم حاولوا الإمساك بمراكز السلطة، وكلما ضربوا دائرة من قوى الأمن والقوات المسلحة على أمل الوصول إلى دائرة مختلفة الهوى، اصطدموا بما سموه ”الدولة العميقة من الفلول”، وتبلورت النتيجة بتحرك القوات لحسم الموقف. لا أريد الاستهانة بقدرات أحد، غير أن من يريد التحرك على مستوى دولي واسع لا بد أن تكون لديه أجهزة استخبارات واسعة ومنتشرة وتتمتع بكفاءة عالية، ومهما كانت قدرات جهاز دولة صغيرة تعاني معضلات نقص بشري، فإن من المستحيل إدراك تفصيلات المواقف على جبهة واسعة تمتد من المحيط الأطلسي إلى اليمن عبر سوريا، ووصولا إلى مياه الخليج الملتهبة وليس الدافئة كما وصفها الروس الأولون. لذلك، لم تعد حسابات ما قبل سقوط الأنظمة كما هي بعد السقوط، على مستوى المنطقة كلها وليس في مصر وحدها، التي بقيت قواتها وأجهزتها قادرة على فرض الوجود الوطني. وعندما تكون مهمة المتابعة والتأثير أكبر من قدرات جهاز الاستخبارات تصاب استراتيجية الدولة بالفشل المؤكد، والفشل في مثل هذه المواقف تترتب عليه تبعات خطيرة. العمل في أجهزة الاستخبارات يفرض على المؤسسة بكل مستوياتها التركيز على قراءة الاحتمالات، والوقوف مطولا عند أسوأ الاحتمالات، استعدادا لما يترتب على الفشل، وهذا يتطلب قاعدة معلومات مفصلة، ومصادر متعددة بمستويات متقدمة، وقدرة على فهم حالات التجاوب من جهة وردود الفعل من جهة أخرى، وإذ يكون من المستحيل تحقيق هذه المستلزمات من قبل دولة صغيرة. فإن وقوع قيادة الدولة في مطبات خطيرة يؤدي في المحصلة إلى اضطراب محلي؛ لأن من المستحيل تنفيذ أي مشروع للتدخل الخارجي من دون استخبارات قوية، إلا إذا قبل القادة السياسيون فكرة الانسياق وراء الأخطاء المدمرة. على الجناح الشمالي، حاول رئيس الوزراء التركي إردوغان ركوب موجة ”الربيع العربي”، ورفعت صوره في ساحات اعتصام عراقية، فجلبت ردود فعل غاضبة، وحاول المناورة عراقيا من خلال فسحة الكرد، إلا أنه فوجئ بتنبه معظم العراقيين إلى الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، ومنها ما يستهدف وحدة العراق، وتجاوز كل الخطوط على الساحة المصرية. وفجأة تدهورت سمعة أحزاب ”الإسلام السياسي” في تركيا، بعد ما نشر وما قيل عن حالات فساد كان البعض يظن أن هذا النمط من التوجهات السياسية بعيد عنها. ويبدو أن سلطة رئيس الوزراء التركي لا تزال ضعيفة على أجهزة الأمن والاستخبارات والشرطة، وإلا فلماذا كل هذه الإرهاصات والإخفاقات وحصاد الفشل في التقديرات الداخلية والخارجية؟ عندما وصفت الصراع - قبل عام - بين ”الإخوان” ودول عدة بالحرب، رأى البعض في الوصف مبالغة، بينما كنت أعني الكلمة بكل أبعادها، فالحرب لا تعني بالضرورة دفع الدروع إلى ساحات المجابهة، التي دفعت في المحصلة بطريقة وأخرى، وجرى تسخير ما هو أكثر تأثيرا من المدرعات، وأصبحت الحرب مفتوحة، قانونيا وإعلاميا ونفسيا وتوجيهيا وأمنيا.. تعبويا واستراتيجيا، وأصبح كل بيت معنيًّا بتحصين أبنائه وحمايتهم. والشيء الأكيد هو أن حالة المجابهة مع ”الإخوان” تحولت بالنسبة لكثير من الدول إلى حالة مصيرية لا تراجع عنها، وهم ليسوا مستعدين ولا قادرين على المجابهة لا الآن ولا في المستقبل. ومع كل ما يحدث، ورغم أن منطقة الشرق لم تشهد حالة سابقة كالحالة السائدة الآن من الاضطراب والحروب الأهلية، فالصورة أصبحت واضحة للغاية، وكل المؤديات معلومة، وموازين القوى واضحة، وقد خسر ”الإخوان” ومناصروهم ومساندوهم (دولا وأفرادا) اللعبة والحرب، ولا مجال أمام الجهات الداعمة ل”الإخوان” غير مراجعة المواقف، فالمناورة بالخيارات على الاتجاه نفسه تبقى مكلفة وعبثية وغير مبررة، إلا أن من الصعب توقع الوصول إلى تسويات بين الدول المتخالفة، فالمسألة دخلت ضمن مفهوم الحسم، حتى لو صمم على مراحل متعاقبة.