إن من الأجواء الرمضانية ما نشاهده فيه من الحرص على الإنفاق والصدقات، فشهر رمضان شهر الجود، وشهر السخاء؛فالنفوس في هذا الشهر تقترب من خالقها، فلقد جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ”كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أجْوَدَ النَّاسِ، وأجوَدَ ما يكونُ في رمضانَ حينَ يلقاهُ جِبريلُ، وكانَ جبريلُ عليهِ السَّلام يلقاهُ في كلِّ ليلةٍ مِنْ رِمَضانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أجوَدَ بالخيرِ من الرِّيحِ المُرْسَلَةِ”. وإنما كان جودُه صلى الله عليه وسلم في رمضانَ مضاعفاً لأسبابٍ ثلاثة: الأول: لمناسبة رمضان، فإنه شهرٌ تضاعفُ فيه الحسنات، وتُرفعُ به الدرجات، وتُفتحُ فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، فيكُونُ العبادُ أقرَبَ إلى مولاهم بكثرة الأعمال الصالحة فيه. الثاني: لكثرة قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان، والقرآن يحثُ على الإنفاق في سبيل الله، وعلى جعل الدنيا في اليد لا في القلب والإقبال على الآخرة، لذا حريٌّ بكلِّ من يقرأ القرآن أن يكثر من الصدقة في سبيل الله. الثالث: لأنه صلى الله عليه وسلم كان يلقى جبريلَ في كلِّ ليلة من رمضان، ولقاؤُه إياهُ من مجالسةِ أهل الصلاحِ، ومجالسةُ أهلِ الصلاحِ تزيدُ في الإيمان، وتحثُ الإنسانَ على الطاعات. قال ابنُ المُنَيِّر رحمه الله: ”ووَجه التَّشبيه بين أجوديَّتِهِ صلى الله عليه وسلم بالخير وبين أجودِيَّة الرِّيح المُرْسَلَة أنَّ المُرَادَ بالريحِ ريحُ الرَّحمة التي يرسلهَا الله تعالى لإنْزَالِ الغَيْثِ العامِّ، الذي يكونُ سبباً لإصابةِ الأرضِ المَيْتَةِ وغَيْرِ المَيْتَةِ، أيْ فَيَعُمُّ خيْرُه وبِرُّهُ مَنْ هُوَ بِصِفَةِ الفقرِ والحاجةِ ومن هو بِصفةِ الغِنى والكِفَايةِ أكْثَرَ ممَّا يعمُّ الغيثُ الناشِئَةُ عنْ الِّريحِ المُرسَلَةِ صلى الله عليه وسلم”. والحديث عن جوده صلى الله عليه وسلم يطول، فهو حقاً أجودُ الناس، وأنواع جودِه لا تنحصر؛فإنه صلى الله عليه وسلم لا يردُّ سائلاً إلا ألاَّ يجد، حتى إنه ربما سألَه رجلٌ ثوبَه الذي عليه، فيدخُلُ بيته ويخرجُ وقد خلعَ الثوبَ فيعطيه السائل، وهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فقد حَدَث أن أعطى غنماً بين جبلين، وربما اشترى الشيءَ ودفَعَ ثمنَه ثم ردَّه على بائعِه وأبقى عنده الثمن، وربما اشترى فأعطى الثَّمن وزيادة، وربما اقترضَ شيئاً فرده بأحسنَ منه، وكان يقبلُ الهدية ويُثيبُ عليها أكثَرَ منها. وكان-عليه صلواتُ الله وسلامُه- يفرحُ بأن يعطيَ أكثرَ من فرح الآخذ بما يأخذ. هذكذا وُصِف حال النببي صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي للمسلم أن يكون: ”لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رِسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنةٌ”. أخي الصائم: للصدقة والإنفاق من الفضائل مالا يحصى كثرة؛فالصدقةُ إنَّما وُضِعت على المسلمين تطهيراً لهُمْ، وتزكيةً لأنفسِهم، وهي بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يضاعف الله لمن يشاء. والمؤمن يستظلُّ يوم القيامةِ في ظل صدقتِه، كما أن الصدقة تطفئ غضبَ الرب، وتدفع مِيتةَ السوء، ومن كان مِنْ أهلِ الصَّدَقَةِ دُعيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، ومَن كَانَ مِنْ أْهلِ الصِّيامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّان، ومن كان من أهلهما معا دعي منهما معاً، واليَدُ العُلْيَا-وهي المُنْفِقَةُ-خيرٌ مِنْ اليَدِ السُّفْلَى، وفِتْنِةُ الرَّجُلِ في أهلِهِ ومَالِه وولَدهِ وجاره تُكَّفِّرها الصلاةُ والصَّومُ والصَّدَقَةُ، والقليلُ مِنَ الصَّدقة يقي من النار ولو كان بشَّقِ تمرة، والصدقة برهان على الإيمان، وفيها إحسان الظن بالله عز وجل. ولعل من الناسِ من تمنعه بعض ُ الأسباب عن الصدقة، كأن يخشى أن لا تصل صدقته إلى مستحقها، أو أن صدقته لن تساوي شيئاً إذا ما قورنت بحاجات ذلك الفقير. والجواب ما ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه مرقوعاً قال: ”قالَ رجُلٌ: لأتصدَّقنَ اللَّيلَةَ بِصدَقَةٍ، فخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهاَ فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فأَصبحُوا يتحَدَّثُّونَ تُصُدِّق اللَّيلةَ على زَاِنيَةٍ، قال اللهُمَ لك الحمدُ على زانيةٍ!!، لأَتَصَدَّقنَّ بصدقَةٍ، فخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعها في يد غنيِّ، فأصبحُوا يتحَدَّثوُنَ: تُصدِّقَ على غنيٍّ، قال اللهم لك الحمدُ على غَنيِّ! لأتصدَّقنَّ بصدقةٍ، فخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فوَضَعَها في يدِ سَارِقٍ، فأصبحُوا يتحدَثونَ تصُّدقَ على سَارقٍ، فقال: اللّهُمَ لكَ الحَمدُ، علىَ زانِيِةٍ!وعلى غَنِيِّ! وعلى سارق، فأُتِيَ فقِيلَ لهُ: أمَّا صدقَتُكَ فقد قُبِلتْ، أمَّا الزَّانيةُ فلعَلَّها تَسْتَعِفُّ بِهَا عنْ زِناهاَ، ولعلَّ الغَنِيَّ يَعْتِبِرُ فيُنْفِقُ ممَّا أعطاهُ اللهُ، ولعلَّ السَّارِقُ يَسْتَعِفُّ بِهاَ عنْ سَرِقَتِهِ”(رواه البخاري ومسلم). وأما الجواب عن شبهة الصدقة القليلة، وأنها ربما لا تصن شيئاً، فعن أَبِي هُرِيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقَولُ: ”يا نساءَ المُسلماتِ لا تحْقِرَنَّ جارةٌ لِجاَرَتِهاَ ولَو فِرْسِنَ شاَةٍ”(أخرجه البخاري ومسلم)وفي الحديث المشهور: ”اتَّقوا النَّارَ ولوْ بِشِقِّ تَمْرَة”