لم تكن زيارتي الأولى إلى تركيا، تحظى في مخيلتي بذاك الزخم الذي عشته بها في الحقيقة، فمنذ أن وطأت قدماي أرضها وأنا أشد الناس حرصا على الوقت الذي خفته أن يفلت مني في ضيقه مقارنة بثراء اسطنبول التاريخي والحضاري، خمسة أيام صارعت فيها الساعات والدقائق والثواني من أجل الظفر بأكبر عدد ممكن من الزيارات للمتاحف والمساجد المنتشرة انتشار البشر الوافدين إليها من كل حدب وصوب، لكأنهم على كثرتهم في كل الأماكن التي زرتها حجاج يطوفون ببيت الله الحرام. تركيا التي ارتبط اسمها في مخيلتي بدروس التاريخ والمعالم التي مازالت قائمة والتي ترتبط بها تاريخيا في الجزائر أكثر من مسلسلاتها المدبلجة في القنوات العربية، كانت نفسها تركيا التي دخلتها من عاصمتها التاريخية والحضارية. اسطنبول وهي تستقبلني بجمالها الذي يشتد فتنة كلما أمعنت النظر إليه، فأينما وليت وجهك غمرك البحر بعبقه المهيمن على المدينة في امتداد خيالي بين الأرض التي تضيق هنا وتنفرج هناك، دون أن تمنعه من التوغل فيها والعبث بها كيفما شاء. من ساحة تقسيم وشارع الاستقلال إلى منطقة آرتيكوي التي يعني اسمها بالعربية وسط القرية أو القرية الوسطية ونهجها الممتلئ على امتداده بصور في وضعيات مختلفة لمصطفى كمال أتاتورك، إلى قصر الباب العالي ”طوبقبي” إلى متحف ”آيا صوفيا” المكان الذي ظل كنيسة لمدة 916 عام، ولمدة 481 سنة مسجدا، ومنذ العام 1935 تحولت آيا صوفيا إلى متحف، إلى الجامع الأزرق” السلطان أحمد ”ومسجد السليمانية، إلى الجامع الجديد أو ما يعرف بالتركية ”يني جامي”، إلى البازار المصري، إلى مقهى بيار لوتي في أعالي إسطنبول؛ ذلك الأديب الفرنسي الذي عشق إسطنبول فعاش فيها وراود المكان الذي تعوّد فيه على الكتابة ليحمل لاحقا اسمه .. تلك كانت الأماكن التي زرتها في رحلتي الأولى التي قادتني إلى إسطنبول، دون أن أنسى استضافتي في القناة التركية العربية في برنامج الألوان السبعة الذي يقدمه الإعلامي الفلسطيني نزار الحرباوي. قصص اسطنبول لا تنتهي، كما لا ينام ليلها، لا ينام نهارها أيضا، وكما للبحر سطوته في اسطنبول، فإن شذا الياسمين الموضوع للزينة في أرصفة وجدران الطرقات فيها، والأنواع الأخرى من الأزهار على اختلاف ألوانها وتناسقها الجمالي الباهر، أثرلا يمكن محوه في نفسك وهو يستنفر جميع حواسك، فيستدرجك إليه، لتقف إعجابا واحتراما لمدينة تولي لمظهرها العناية الأولى، فلا تمر أصبوحة ولا أمسية إلا وترى شاحنات التنظيف تجوب شوارع المدينة التي لا يمكن إلا أن تراها في كل أوقاتها، رغم كثرة الوافدين، ناصعة النظافة، شذية الرائحة. كنت كلما تحدثت مع تركي وسألني من أين أنت وأقول له من ”الجزاير” كما ينطقونها ، أجد منهم من يعرفها بحكم التجارة وآخرون بحكم التاريخ وآخرون أيضا بحكم الرياضة وهم يعبرون عن اللعب الجيد للفريق الوطني في كأس العالم، غير أن منهم من سألني هل أنتم مسلمون؟ أنتم عرب؟ وغيرها من الأسئلة التي طرحت علي من أشخاص هم في الغالب لم يعرفوا الجزائر جيدا. غير أن اللقاء السار بالنسبة لي كان مع الأديب التركي محمد فاتح أوكوموش الذي يجيد اللغة العربية حديثا وكتابة، فهو مترجم وصحفي وشاعر، يشغل منصب الأمين العام لاتحاد الكتاب الأكاديميين للعالم الإسلامي، تخرج في كلية الشريعة من الأزهر الشريف وماجستير في الأدب التركي والدكتوراه عن الإسلام في أوروبا من جامعة أمستردام. هذا الأخير يعرف الجزائر حق المعرفة على الرغم من أنه لم يزرها ولو لمرة واحدة في حياته، يعرف أميرها عبد القادر الجزائري وحادثة المبايعة، والزمالة، وقسنطينة، ووهران، وابن باديس، ومالك ابن نبي، وأصدر عام 1992 كتابا عنها باللغة التركية حمل عنوان : الجزائر إلى أين ؟ الثورة القادمة.. ، كما أصدر عام 1998 كتابا آخر عن مالك ابن نبي بالتركية دائما، عنوانه: مالك ابن نبي .. شاهد القرن. في كتابه الجزائر إلى أين؟ الثورة القادمة، يروي فاتح أوكوموش أنه تناول في الكتاب تاريخ الجزائر قبل الاستعمار الفرنسي والمكانة التي كانت تحتلها إقليميا وقاريا آنذاك، و كذا الجزائر في العهد العثماني، والمركز المرموق الذي كانت تحتله في تاريخ هذه الإمبراطورية، ليعرج على الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي شبهه باستعمار الأوروبيين للهنود الحمر، ففرنسا حسب رأيه لم يكن في نيتها استغلال الأرض والعباد فحسب، بل كانت تبحث عن وطن جديد يكون بمثابة الامتداد لفرنسا الأم. وفي تطرقه للاستعمار الفرنسي في الجزائر تناول رواد الجزائر الذين دافعوا عن الهوية الوطنية من الاضمحلال في ظل السياسة الممنهجة لفرنسة الجزائر من قبيل عبد الحميد ابن باديس وغيره ممن وقفوا كشوكة في حلق فرنسا، مرورا بالثورة الجزائرية التي أتت بعد معاناة كبيرة بالهدف الذي انفجرت من أجله، فقدمت الاستقلال للجزائر، وهي المرحلة التي تناولها كتابه معرجا على ظهور الحركات الإسلامية في الجزائر، إذ يرى أنها تأثرت بالحركات الإسلامية الأولى التي ظهرت في مصر وغيرها. ويرى في الكتاب ذاته أن التفتح الديمقراطي الجزائري كأول تجربة ديمقراطية عربية، قد فشلت في بدايتها لأسباب يعرفها التاريخ، وفي سؤالي له عن المقصود بالثورة القادمة التي عنون بها الكتاب قال: لأن الثورة التي حدثت في الجزائر بدءا بأحداث أكتوبر 1988 وما تلاها كان شبيها بالثورة الإيرانية، وأنها كانت النواة لأول محاولة ديمقراطية، غير أنها كانت فاشلة حسب تعبيره وفي رؤيته لما يحدث في العالم العربي في وقتنا الحالي يقول: إنه يتفق مع المفكر مالك ابن نبي الذي رأى أن العالم العربي والإسلامي كانت لديه القابلية للاستعمار، ومن ثم تعرضه فعلا للاستعمار الذي استنزف عقودا طويلة من البناء لصالح الاستغلال والدمار، لتأتي بعدها مرحلة الاستقلال الصوري في ظل التبعية الخانقة للدول العربية من قبل الدول التي احتلتها سابقا سياسيا واقتصاديا، لذلك فهو يرى أن ما تمر به الأمة العربية والإسلامية إنما هي مرحلة صحوة بالرغم من الأثمان الباهضة التي قدمتها والتي مازالت تقدمها، إلا أن الآتي هو ما سيكون الاستقلال الفعلي. فاتح أوكوموش الذي تمنى أن يترجم كتابه هذا إلى العربية، والكتاب الآخر الذي تناول فيه الرؤية والمسيرة الفكرية لمالك ابن نبي لكي يطلع القارئ العربي والجزائري على الخصوص عليهما، تحدث بإسهاب وإعجاب كبيرين عن مالك ابن نبي الذي وصفه بشاهد القرن، كشخصية جزائرية وعالمية فذة قدمت الكثير للفكر الإنساني. وروى في هذا الخصوص عن لقاء جمعه بالكاتب والأكاديمي الأمريكي بروس لاورس المختص في الطرق الصوفية في الهند. ويقول فاتح أوكوموش، إن هذا الأخير عندما علم أنني ألفت كتابا عن مالك ابن نبي، صرخ بإعجاب قائلا: ”يا إلهي لقد كتبت عن مالك إبن نبي..مالك ابن نبي بطلي”. كنت سعيدة كوني التقيت كاتبا تركيا يملك من الثقافة الجزائرية ما دفعه إلى تأليف هذين الكتابين، وهو صاحب الترجمات والقصص والكتب التاريخية والفقهية. ويعود الفضل في تعرفي على هذا الكاتب إلى الشاعر إبراهيم الجريفاني الذي دلني عليه على اعتبار أنه ترجم له مجموعة من قصائد ديوانه ”بنات ألببي” إلى التركية والتي نشرت عن دار الرّمك في بيروت العام الفارط. حتى وإن كانت مدة إقامتي في اسطنبول لم تتجاوز الخمسة أيام، إلا أن الحديث عنها وعن تركيا لا ينتهي في صفحتين أو ثلاث، يلزمني عمر من الكتب كي أفك طلاسمها .. تلك القسطنطينية الإسطنبولية الشرقية المخملية، حتى في ارتداد حروف لغتها من العربية إلى اللاتينية، ظلت شرقية الطباع، متغنجة الهوى، حتى في تبرّجها ظلّت متحجبة. كمّ من الأسئلة هو ذاك الذي طرحته على نفسي في كل آية نقشت على صخور جوامعها، وعند كل طغراء انتصبت للتعبير على تواقيع سلاطينها: أية جريمة هي تلك التي ارتكبت في حق الخط العربي التركي الذي اندثر لعدة عقود بسبب قلب الأبجدية التركية من العربية إلى اللاتينية لولا إعادة بعثه مؤخرا، وهو الذي راج حتى قيل فيه: ”القرآن نزل في مكة، وقرِأ في القاهرة وكُتب في إسطنبول” للدلالة على جماله والاعتناء به للدرجة التي كان يوجد بها سرية كاملة من الخطاطين المحترفين بالباب العالي، حتى أنه عرف عن كل السلاطين العثمانيين اعتناءهم بالخط، فكان أغلبهم خطاطون، ولعل ذلك ما يتجلى في تواقيعهم التي اتخذت جميعها أبدع الأشكال. ماهو شعور الأتراك الذين يطوفون في مخلفات تاريخه، فيصطدمون بكتابات لا يفهمونها لأنهم لا يستطيعون أصلا قراءتها، أو ليس شعورا بالغربة وعدم الانتماء تجاه الماضي هو ذاك الشعور؟ لقد بلغت القومية الفائضة لدى مصطفى كمال أن حوّل الآذان على غرار الأبجدية، لكن هذه المرة من العربية إلى التركية وهو الوضع الذي ظل قائما إلى غاية مجيء عدنان مندريس رئيس الوزراء التركى عام 1950، و الذي يعد أول زعيم سياسي منتخب ديمقراطياً في تاريخ تركيا، و هو من أعاد الآذان في تركيا من اللغة التركية إلى العربية، حكم عشرة أعوام و أعدم بعدها بتهمة اعتزام قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية !! ولكم كانت صدمتي كبيرة عندما علمت لأول مرة أن مصطفى كمال أتاتورك دعا إلى نظم قرآن تركي، لا يتم أخذه حرفيا من القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما يتم نظمه، وهو ما لم يتم، بالرغم من ترجمة القرآن من العربية إلى التركية! وبعيدا عن كل ذلك كانت زيارتي إلى تركيا على قصرها مثمرة من عدة جوانب وهي تطلعني على معارف جديدة، وترسخ لي معارف قديمة عنها، كانت بمثابة المتحف المفتوح والبحر الزلال الذي كلما ارتويت منه طلبت المزيد، فهل من مزيد ..؟ كلما تحدثت مع تركي وسألني من أين أنت وأقول له من ”الجزاير”، أجد منهم من يعرفها بحكم التجارة وآخرون بحكم التاريخ وآخرون أيضا بحكم الرياضة وهم يعبرون عن اللعب الجيد للفريق الوطني في كأس العالم، غير أن منهم من سألني هل أنتم مسلمون؟ أنتم عرب؟ ما تمر به الأمة العربية والإسلامية إنما هي مرحلة صحوة بالرغم من الأثمان الباهضة التي قدمتها والتي مازالت تقدمها، إلا أن الآتي هو ما سيكون الاستقلال الفعلي. التفتح الديمقراطي الجزائري كأول تجربة ديمقراطية عربية، قد فشلت في بدايتها لأسباب يعرفها التاريخ.